فرمان شحتان

في بلادٍ تُدفن فيها الأفكار قبل أن تولد، وتُكفَّن فيها الكلمات قبل أن تنطق، خرج علينا “الرئيس شحتان” ببلاغ جديد يليق بمقام حفّار قبور الصحافة المغربية.
مسرح العبث مستمر، والفرمانات تتوالى… أمّا المشهد فواحد :
The end of journalism”.
أصدر الرفيق شحتان، بمناسبة إعادة انتخابه للمرة (؟) على رأس جمعيةٍ قامت ونهضت من أجل هدف واحد ووحيد: تكفين ما بقي من صحافة حرّة ودفنها على الطريقة المغربية المرعية.
أصدر (الرئيس شحتان) فرمانًا واضحًا جليًا يقضي بمنع البودكاست وكل محتوى رقمي يغرد خارج السرب الإعلامي الرسمي.
وفي خطوة استباقية لجدول أعمال المجلس الوطني للصحافة، الذي لم يُولد بعد تشريعيًا ومازالت نصوصه تتخبط في الغرفة الثانية، يخبرنا الرفيق بأن مجلس التنظيم الذاتي وقد صار مجلس الإعدام الذاتي، سيضع الإطار القانوني والتشريعي اللازم لإنهاء شيء اسمه البودكاست أو المحتوى الرقمي الذي يطوف في العالم الرقمي المغربي بدون بطاقة ولا مقاولة صحفية !
ولماذا أيها “الأخ الأكبر”؟
لأن زمن التساهل والسكوت عن الفوضى السائدة في مجال الصحافة المغربية قد انتهى. ولأن “انتحال صفة صحافي” خارج نظام البطائق التي يصدرها مجلس رفيق آخر اسمه مجاهد، سيقود إلى السجن : انتهى الكلام .
هل قلتَ “انتحال صفة صحافي ”؟
وهل بقيت هناك صحافة تستحق هذه التسمية في زمن “شوف TV ” وخواتها، حيث لا نرى في مرآتها سوى كلمة واحدة: The end of journalism.
أنا، كمواطن بسيط لا اقرأ ولا اشاهد ولا اسمع لاعلام الدولة المحنط، ولا لصحافة الأخ الكبر، التي تمول من جيوب دافعي الضرائب، ولا تمتهن اية حرفة سوى قتل أمل دافع الضرائب هذا في رؤية بلد يتقدم وسياسة ترتقي واعلام يخدم الحقيقة …
اعترف الان بين يدي الرئيس الجديد للمشهد الصحافي الذي تلعب فيه كبيرة مراسلي شوف TV فاطمة الزهراء الدور الأبرز في إعلام الفضائح ..
اعترف أني لا اشاهد سوى البودكاست والمحتوى الرقمي في الإعلام البديل وان برامج المهداوي والعشعاشي وبوعشرين و مثلث و العبدي والجامعي وعلي المرابط وغيرهم هو كل ما استهلك في هذا الوطن الذي ضاقت به الصحافة بما رحبت في دنيا الناس …
وها أنا بعد أن سمعت تهديد الرفيق شحتان ومن معه، قررت تسليم نفسي( لشرطة الصحافة الجديدة) ، والاعتراف — دون ضرب ولا تهديد ولا ضغط — بأني لا أستهلك هنا والآن اي إعلام الصادر على المذهب الشحتاني.
وإني بهذه المناسبة أتوب إلى الله وإلى المجلس الوطني للصحافة القادم، حتى قبل أن يولد ونعرف شكله وملامحه وتفاصيل الأدوار الجديدة الموكولة إليه .
هل هذا كافٍ يا “نقيب الصحافيين الجدد”؟
اعذرني لأول مرة أسمع رئيس هيئة مهنية يهدد زملاءه وعموم المواطنين بالسجن والمنع ويقوم مكان النيابة العامة بتكييف الأفعال إلى جرائم .
ولأول مرة أرى رئيس جمعية ينتحل صفة المشرّع والمنفذ والقاضي، أي السلطات الثلاث جميعها في “مشعل واحد”
لكن الان تأكد ما كان مجرد تخمينات من ان المجلس الوطني للصحافة القادم بتركيبته الهجينة وغير الدستورية ستوكل له مهام نتف ما بقي من ريش في الصحافة الحرة وتعبيراتها المنفلتة من السلطة السياسية والمالية ومن الرقابة الذاتية بفضل منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تقلق راحة السلطة وتريد من زملاء المهنة ان يتطوعوا لاعدامها لتقليل كلفة الجريمة !
اعذرني يا رفيق هذا واقع صحافي وسلطوي يفوق خيالي المحدود، الذي مازال يؤمن ان الصحافة مرادفة للحرية، وان القانون يتحدث عن الصحافة وعن النشر حتى لا يصادر حق المواطن في التعبير عن رأيه داخل الصحافة وخارجها …
البطاقة الصحفية ليست شرطا لممارسة الحق في التعبير عن الرأي المكفول بمقتضى الاتفاقيات الدولية وبمقتضى الدستور والقانون والأعراف الإنسانية، البطاقة الصحفية اجراء تقني لتسهيل ولوج الصحافيين إلى مصادر الأخبار والإدارات والبرلمانات والمقرات الحكومية ،وليست البطاقة احتكار في يد القلة ضد حق كل المواطنين في التعبير عن الرأي وإنتاج المعنى مهما كان..
اما الفيصل في حالة التجاوز فهو القضاء وليس الأهواء السلطوية والنزوعات الاستبدادية …
وليس عبثا ان في كل الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية ليس من مهمة صحافيين كيفما كانوا، ان توكل لهم وظيفة إقفال المجال العام ومنع الناس من الكلام في السياسة والاقتصاد والمجتمع .
هذه مهمة قذرة وخطيرة لم يجرؤ اي نظام سلطوي في العالم ان أوكلها لصحافيين او حتى على المحسوبين على مهنة
صارت بلا روح ولا قيم ولا معنى ..
حتى الروائي التشيكي فرانز كافكا
(Franz Kafka)وضع حدودا ( لكفكاويته) اما انتم فلا حدود لعبثكم وسرياليتكم التي لا فن فيها .
مؤسف ان نرى عبد المنعم الديلمي وعبد الحميد الجماهري ومحمد السلهمي …جالسين بخشوع يستمعون إلى خطبة ( مول شوف TV) يعرض برنامجه المستقبلي على أسماعهم ،برنامج لا يخرج عن تحقيق مطالب (خبزية ريعية ) مثل بطاقة قطار لكل الصحافيين وتخفيض تذكرة الطائرة وتعميم الدعم على جميع الدكاكين الصحفية … وطبعا السعي الحثيث لمنع البودكاست …
اما الدفاع عن حرية الصحافة التي ضاقت حتى ماعادت في كل البلاد جريدة او مجلة او موقع -إلا ما ندر- يستحق الانتساب إلى عالم الصحافة، فهذه مطالب خارج جدول أعمال الصحافة الشحتانية ..
اللهم لا نسألك ردّ الرداءة، ولكن نسألك اللطف فيها. وآخر دعوانا: ان خذنا في ما بقي من الضوء قبل أن يحل الظلام وتدلهم الخطوب.
آمين.
* الفرمان كلمة تركية عثمانية تعني الأمر السلطاني أو المرسوم الإمبراطوري. وهو قرار مكتوب يصدر عن السلطان العثماني، يحمل قوّة القانون ويُنفّذ فورًا دون الحاجة إلى نقاش او تصديق .
مصطفى أبوعلي
عن الحياة اليومية