Banniére Tmar

عشر سنوات على “الربيع العربي”… عودة إلى الصفر

0
حسن الحو
حسن الحو

عقد من الزمن مر على ما يُسمى بثورات الربيع العربي، انطفأ فيه آخر أمل بعد انقلاب الرئيس التونسي “قيس سعيد” على الشرعية بتونس الخضراء.

تركةٌ سياسية يمكن النظر فيها بعين الناقد لرصد مميزاتها ونقائصها، نقاط قوتها ومكامن ضعفها، لتحليل الدوافع التي أطلقت شرارة التمرد والعصيان على الأوضاع السياسية والاجتماعية، دافعة الشعوب إلى التعبير عن سخطها العارم على الأوضاع المتردية.

سخطٌ تنوعت مظاهره بين الاحتجاج المنظم والمواجهة المسلحة، استطاعت فيه هذه الهَبَّات الشعبية، الإطاحة بأنظمة استبدادية عمرت لعقود من الزمن.

لكن، بعد عشر سنوات عجاف، ذبلت آخر زهرة من ربيعٍ مر ذات فصلٍ على صحارى العرب، واستطاعت الأنظمة المُطاح بها العودة للحكم، بل وإحكام قبضتها على زمام الأمور السياسية والاقتصادية. فهل يمكن تسمية ما اصطلح عليه بــ “الربيع العربي” ثورات مكتملة الأركان؟ ولماذا لم تستطع الشعوب تغيير أوضاعها السياسية والاجتماعية بعد ربيعها العربي؟

مصطلح الثورة، كما هو متعارف عليه في الأدبيات السياسية والاجتماعية الحديثة، مصطلح لم تعرفه لغة العرب، التي عبرت عن أي محاولة للتمرد على النظم الاجتماعية السائدة والأعراف القبلية المستحكمة، بـ “الخروج عن الجماعة” و”شق عصا الطاعة” و”الدعوة للفتنة المؤدية للفوضى” و”الانفلات” ونعت الثوار بـ الخوارج. فِعل “ثار” في كل القواميس القديمة، لا يحيل على المعنى السياسي والحمولة الاجتماعية لكلمة ثورة كما هي متعارف عليها في العصر الحديث؛ ويمكن تلخيص كل معاني فعل “ثار” المتعارفة عند العرب في : “كل حركة فجائية سريعة وعنيفة تولد نوعا من الفوضى والاضطراب”.

عند استيراد هذا المصطلح، كما استوردت مصطلحات أخرى لقيم ونظم وأنساق فكرية – تم استيرادها جاهزة ولم يتم خلقها أو استنباتها في مشاتل الوعي- استُخدمت استخداما ممسوخا، لتسمية الانقلابات العسكرية في العراق وسوريا ومصر في الخمسينيات من القرن الماضي بالثورات المجيدة.

إن الثورة، كما يعرفها المؤرخ الأمريكي “كرين برينتون” في كتابه: “تشريح الثورة”: “عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى بنيان اجتماعي آخر”.

ويورد “يوري كرازين” تعريفا آخر بقوله: “إنها قفزة من التشكيل الاقتصادي والاجتماعي البالي إلى تشكيل أكثر تقدما”.

الثورة، بهذا التعريف، هي بناء للوعي الجمعي ممتد في الزمان، من أجل مساءلة قضايا مركزية، وتوجيه المجتمع للإيمان بخلافها والعمل على تجاوزها.

إنها الخروج من حال الطبيعة إلى التعاقد الاجتماعي المؤسِس للحقوق الاساسية والتداول السياسي، وإطلاق الحريات الفردية وإيلاء الأهمية للعلم.

الثورات التي نجحت عبر التاريخ، كالثورة الفرنسية والأمريكية والبلشفية، لم تكن حادثا عابرا أو ظاهرة فجائية، بل جاءت تتويجا لسنوات من بناء الإنسان الثائر، الحامل للتصورات البديلة والقيم التي يراد ترسيخها. بعد نجاح تلك الثورات، تم إصدار “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” من طرف الجمعية التأسيسية الوطنية بفرنسا و”إعلان فيرجينيا للحقوق” من أجل القطيعة مع الاستبداد والتأسيس لنظام سياسي ومجتمعي غير وجه أوروبا والعالم. كانت هذه الإعلانات بمثابة العهد الجديد من الكتب المقدسة، التي أسست للدولة الحديثة والمدنية المنفلتة من قيود الدين والانتماء.

لكن الربيع العربي كان مختلفا تماما… لم تسبقه صالونات فكرية أو عمل دؤوب للنخب السياسية من أجل خلق الكتلة التاريخية المنسجمة. لم تسبقه خلخلة البنية الفكرية وتشريح العقل العربي الذي يُراد تثويره، بل كان هَبَّة إنسانٍ مقهور جائع، صودرت عربته البئيسة، فأضرم النار في جسده، ثم كان ماذا ؟؟!

توالت الهبات الشعبية في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون بوصلة موجِهة، وطفت على السطح عقائد الناس البسيطة، وهرعوا لحمولتهم الدينية، لأنهم لا يملكون سواها للتنظير لما بعد الثورات، فاستغلت الأصولية الدينية هيجان الشعوب وعواطفها الساذجة، لتركب موجة التغيير وتستولي على الحكم في مصر وتونس والعراق وليبيا.

ثم يكتشف الناس، بعد سنوات، أنهم خُدعوا… وأن من استأمنوهم على ثورتهم، أناسٌ يسعون لإعادة الأوضاع السياسية لمفاهيم القرون الوسطى والحاكم المتغلب، وقمع الحريات والتمكين للجماعات الإرهابية كداعش والنُصرة، لحكم أجزاء واسعة من المنطقة بالحديد والنار.

كما اكتشفت الانتلجنسيا العربية والقوى الحرة، التي كان من المفترض أن تقود الثورة، أنها تخلفت عن موعد التنوير، وتخلف مثقفوها عن عضويةٍ فاعلة، فابتلعتهم الأصولية الدينية.

فهل ثار الناس ليؤسس الإخوان المسلمون في مصر لجنة من الشيوخ لتوجيه كتابة بنود الدستور المصري، وتستولي الفصائل الاسلامية المتناحرة على العراق والشمال السوري، وتهيمن “حركة النهضة” على البرلمان التونسي؟ هل الثورة نزوح للأمام أم تقهقر للخلف؟! هل هي خروج من حالة حرب الكل ضد الكل أم تأسيس لفاشية دينية؟!

أدرك الناس متأخرين، كما يقول المثل المغربي، أنهم: “سَبْقوا العصا على الغنم”. و”طاروا قبل أن يُرَيِّشوا”… فكان السقوط المُدَوِّي هو النتيجة الحتمية، وهو العاصفة التي دمرت بساتين الربيع العربي.

أدركوا أن الثائر، ليس كما تصوره أفلام السينما حاملا بندقيته، ملطخا بالدم ممزق الثياب، بل هو إنسان من نخبة المجتمع، راقي الفكر، كالفلاسفة الذين نظروا للثورة الفرنسية “جان جاك روسو” و ” فولتير”.

أدركوا أن الثورة… تطور اجتماعي كالتطور البيولوجي، خط متصاعد لاكتساب صفات جديدة قادرة على الاستمرار والتعايش، للإفلات من غربال الانتخاب الطبيعي، وليس تطورا عكسيا وارتكاسا الى الوراء.

أدركوا أن العيش تحت نظام هجين، يضمن العتبة من الحقوق، خير من تنظيرات الأصوليين للسياسة الشرعية، فليس عند الأصولي ما يقدمه من نموذج ناجح، غير حروب طاحنة من زمن الخلفاء الراشدين، إلى اغتيالات سليمان القانوني، وعودة أسواق النخاسة والتجني على الحريات الفردية، وقمع العلم والعلماء.

اليوم… وبعد عشر سنوات على فشل كل الثورات العربية، والعودة لنقطة الصفر، يمكن القول إن هناك ثورة أخرى… لكنها ثورة بيضاء هادئة، تقودها وسائل التواصل الاجتماعي، زعزعت الكثير من المسلمات، وأزالت الغطاء عن المستور من ثقافةٍ مزيفة، وجعلت الناس تدرك جناية التلقين على العقل العربي، الذي أدرك أنه غارق في نظرية المؤامرة، منغلق على نفسه، يمارس رقابة ذاتية تمنعه من التحرر والانعتاق.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.