Banniére SIAM

التنمية كل لا يتجزأ

0
التنمية كل لا يتجزأ

ما زالت الدول المسماة منذ الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم بدول “العالم الثالث” أو “الدول النامية” أو “الدول المتخلفة”، لم تجد الإجابات الواقعية والملموسة لدى مواطنيها لأسئلة التنمية الحارقة والتي تؤرق ذوي القرار السياسي في كل بلد من هذه البلدان على حدة. ويؤكد واقع حال هذه الدول حتى اليوم، أنها ما زالت تتخبط في التخلف المتعدد الأبعاد منها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسلوكي (…). وهو ما يوحي بأن العنوان البارز لمرحلة ما بعد استقلال وإلى الآن بالنسبة لجل هذه الدول هو: اجترار التخلف.

إن هذا الواقع الصعب، يفرض على دول الجنوب في إفريقيا وفي الوطن العربي وفي أمريكا اللاتينية إعادة طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية، بعد فشل العديد من التطبيقات والوصفات التي أوصت بها خاصة المؤسسات المالية الدولية وبعض الاقتصاديين الليبراليين الذين كانوا مؤثرين بطروحاتهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ومن أبرزهم الاقتصادي الأمريكي “روستو” (Rostow) لتحقيق الإقلاع الاقتصادي في دول العالم الثالث آنذاك.

ومن هذه الأسئلة القديمة/ الجديدة: ما التنمية؟ ولماذا فشلت دول الجنوب في تحقيقها حتى الآن؟ وكيف لها أن تخرج من دائرة التخلف؟

لا شك أن الإجابات العلمية على هذه الأسئلة وغيرها كثير، ليس بالأمر الهين، فهي تحتاج إلى تضافر جهود الدول النامية مجتمعة، وجهود كل الأوساط العلمية في هذه الدول ومن خلال الشراكات بين الجامعات ومراكز البحث العلمي الموجودة في هذه الدول، وجهود الأحزاب السياسية والبرلمانات، والمجتمعات المدنية (…). والشرط الوحيد أن تتوفر الإرادة السياسية في كل بلد من هذه البلدان.

ولماذا كل هذه الأطراف معنية بقضايا التنمية؟

الجواب، لأن التخلف ظاهرة معقدة ومركبة، تتحدى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتطال العقليات والثقافات وسلوكات الأفراد والجماعات في كل مجتمع متخلف. ولأن التخلف نتيجة حتمية لعوامل داخلية وخارجية، ولا ضير في مصارحة ذواتنا بذلك في كل بلدان الجنوب.

سنحاول في هذه الورقة ملامسة الإجابة على هذه الأسئلة وتقديم بعض التوضيحات التي تبين أن التنمية كل لا يمكن تجزئته، دون ادعاء بامتلاك الحقيقة أو مفاتيح الخروج من مأزق التخلف.

أولا: في البعد الاقتصادي للتنمية

إن هناك خلطا كبيرا بين مفهوم التنمية والمفاهيم القريبة منه، لا سيما مفهوم النمو الاقتصادي حيث ظلت التنمية لمدة طويلة، (من الخمسينيات حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي) تختزل في مفهوم ضيق جدا هو النمو الاقتصادي. وللأسف ما زال الأمر كذلك بالنسبة لبعض الباحثين وكذا لبعض الحكومات. ومن بين التعريفات التي تدل على هذا الخلط البين:

“التنمية هي الجهد المبذول للارتفاع بالدخل الفردي الحقيقي ارتفاعا تراكميا، عن طريق استخدام الموارد البشرية والطبيعية المتاحة استخداما أكفأ وأشمل بغرض رفع الدخل القومي بمعدل أكبر من معدل تزايد السكان”.

وهذا في الحقيقة، كما يؤكد ذلك الاقتصاديان مصطفى عبد اللطيف مصطيفي وعبد الرحمن سانية في كتابهما الجدير بأكثر من قراءة “دراسات في التنمية الاقتصادية” الحديث الإصدار، هو مفهوم النمو الاقتصادي.

والنمو الاقتصادي (la croissance économique) ليس هو التنمية الاقتصادية (développement économique): فمفهوم التنمية الاقتصادية أوسع وأشمل وأعمق من مفهوم النمو الاقتصادي، حيث إنها تعني إحداث تغييرات هيكلية في المؤسسات والذهنيات والعقليات الإدارية والسلوكات اليومية لدى الأفراد والجماعات (…). وهو مفهوم لا يختلف كثيرا عن مفهوم التنمية الذي وصل إليه اليوم الفكر التنموي والذي يقول: إن التنمية مفهوم معقد تتشابك فيه جوانب وعلاقات متعددة، وهي تتضمن إحداث تغيرات جذرية في الهياكل المؤسسية والاجتماعية والإدارية وحتى على مستوى العادات والتقاليد (…).

ونفهم من ذلك أن تحقيق النمو الاقتصادي لا يعني بالضرورة تحقيق التنمية الاقتصادية في هذا البلد أو ذاك. وقد لخص ذلك الاقتصادي “روبير كلاور” (Robert Clawer) في كتابه الصادر في 1966، بعنوان “النمو بدون تنمية”.

ومن باب محاولة التبسيط، سنوضح ما سبق من خلال ملامسة العلاقة بين التنمية والنمو الاقتصادي كالتالي:

يكتسي مفهوم التنمية عدة جوانب وأبعاد ووجوه، أبرزها الوجهان التالين:

– الوجه المرئي: ويقصد به الوجه المادي والملموس من التنمية وهو: النمو الاقتصادي (la croissance économique). والنمو الاقتصادي يحمل ويجسد المحتوى الكمي حيث إنه يشير لوتيرة ومعدل تزايد الإنتاج والاستثمار والاستهلاك والادخار. ويقاس النمو الاقتصادي بالمردود أو العائد أي الناتج الإجمالي أو الناتج الوطني ومتوسط الفرد منه قياسا إلى تعداد السكان.

– والوجه الثاني للتنمية: يتمثل في كيفية وطرق وأساليب توزيع ثمار النمو الاقتصادي على المستهدفين بالعملية الاقتصادية والاجتماعية. وهو سكان البلد، المواطنون والمواطنات.

نفهم من هذا التوضيح الأخير، أن النمو الاقتصادي يشكل الجانب المادي من عملية واسعة وشاملة ومتعددة الأبعاد هي: التنمية. وتؤسس عملية توزيع حصاد النمو الاقتصادي وحصيلته، للبعد الاجتماعي وهو واحد من مجموعة أبعاد التنمية الإنسانية الشاملة.

ثانيا: في البعد الاجتماعي للتنمية

يسعى هذا البعد إلى الاهتمام بالعنصر البشري/ الإنساني بمكوناته المتعددة: القيمية، والنفسية، والحضارية (…). ويتمثل ذلك الاهتمام في إعداد الفرد باعتباره كائنا بشريا من حيث تعليمه، وتدريبه، وإكسابه المهارات والخبرات المتعددة الأوجه، فضلا عن تحديد المستهدف من القيم المجتمعية الجديدة سعيا وراء تمكين الفرد والجماعة المفترض إعدادهم لذلك، حتى يصبحوا عناصر معضدة ومشجعة لبرامج التنمية على كل المستويات الوطنية والجهوية والمحلية.

وإذا كانت الغاية من ذلك هي تحقيق التنمية الاجتماعية، فإن هذه الأخيرة لا يمكن تحقيقها من دون تحقيق التنمية الاقتصادية السابق تحديد معالمها. ولا يمكن تحقيقهما معا، من دون تحقيق التنمية السياسية. ويتضح لنا مرة أخرى، تشابك وتداخل أبعاد التنمية الإنسانية الشاملة.

ثالثا: في البعد السياسي للتنمية:

يهتم هذا البعد بدور الجهاز السياسي في عملية التنمية، وذلك من خلال إصداره للقرارات السياسية التي تعبد الطريق لتحقيق التنمية والتي يفترض أن تنبع أصلا من الفهم الواقعي لإمكانات المجتمع الاقتصادية، ومن التحليل العلمي والعميق لبنائه الاجتماعي، فضلا عما يتوقع أن ينجم عن تلك القرارات من ردود أفعال سياسية، يمكن أن تؤدي إلى الاستقرار أو عدمه. ولا خوف من ذلك حينما تصبح الديمقراطية ممارسة وسلوكات فردية وجماعية وتسود في المؤسسات.

وتتضح أهمية البعد السياسي للتنمية من خلال معطى أساسيا مضمونه: أن تحقيق التنمية السياسية باعتبارها غاية فضلى يعد تحقيقا لمكون أساسي من مكونات منظومة التنمية، ونجاحا كبيرا للدولة في بعد حيوي من أبعاد التنمية الإنسانية الشاملة.

وتعني التنمية السياسية من بين ما تعنيه، تحقيق:

– المساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات.

– العدالة الاجتماعية و”المجالية – الترابية”.

– الشراكة الحقيقية/ الملموسة بين الدولة والمؤسسات الممثلة لها والممثلة للمواطنين في نسج السياسات العمومية وفي تتبع إنجازات البرامج والمخططات التنموية، وفي مراقبة صرف المال العام (…)

– القضاء على الفساد الإداري والمالي.

– ربط المسؤولية بالمحاسبة.

– تطوير الإنسان ذهنيا وثقافيا واجتماعيا من خلال التربية والتعليم، والتربية على حقوق الإنسان (…)

فما الذي نستنتجه من خلال ما تقدم؟

يبدو أنه يمكن تسجيل ثلاثة استنتاجات في غاية من الأهمية لتصحيح مسار دول الجنوب، ونحن منها، وبالتالي تحقيق التقدم المنشود وهي:

1- أن عدم تحقيق التنمية في كل أبعادها، والقصد: التنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، والتنمية السياسية، والتنمية على مستويات التربية والتعليم والصحة والثقافة وغيرها من الأبعاد، يؤدي حتما إلى إحداث اختلالات في المجتمع المعني يصعب تجاوزها وقد تصبح معيقات بنيوية للتنمية.

2- على دول الجنوب أن تنظر(من التنظير) لتنميتها من داخلها. ولنا من علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتواصل والنفس (…) ما يكفي عددا وقيمة، بل إن جل أدمغة دول الجنوب هي من يصنع اليوم تقدم الدول الغربية. ويكفي استحضار بداية مرحلة “كوفيد -19”.

ونستحضر جميعا بهذه المناسبة، عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة (رحمه الله) الذي أفنى حياته في الدفاع عن قضيتين مصيريتين بالنسبة لدول الجنوب: التنمية والأخلاق. وقد رأى أن التنمية لن تحصل في هذه الدول فرادى وجماعات إلا من خلال التعاون “جنوب – جنوب”. وأن قيمة القيم هي الأخلاق.

3- لا يعني التعاون “جنوب – جنوب” انغلاق هذه الدول الجنوبية على أنفسها أي عدم التعاون الاقتصادي مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ومع الصين وغيرها. إنه يعني التعامل مع كل هؤلاء من موقع القوة التفاوضية التي تصنعها التكتلات الاقتصادية الواسعة، والاتحادات القوية اقتصاديا وسياسيا، والبحث العلمي التكاملي من خلال الشراكات الحقيقية بين الجامعات ومراكز البحث التابعة لدول الجنوب.

ولا نخفي اعتقادنا أن الاندماج الاقتصادي لن ينجح إلا إذا كان بين دول الجنوب، لأنه لا اندماج بين الاقتصاديات المتفاوتة في القوة.

وعلينا أن نلاحظ أن دول الاتحاد الأوروبي كمثال، تحاول جاهدة أن تعقد علاقات ثنائية مع الدول الإفريقية والعربية بالرغم من التصريحات السياسية.

وأخيرا، لا ضير في أن نبحث في العوامل والأسباب الداخلية والخارجية التي كانت، وما زالت، تؤدي إلى تعثر قطارات التنمية في أوطاننا الجنوبية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.