هل انتهى دور ” السياسي والنقابي” .
صبري يوسف كاتب رأي وباحث في سوسيولوجيا التنمية.
عندما كان كارل ماركس يشيد مثنه العلمي “المادية التاريخية” .كان هذا الفيلسوف يضع ضمن عدته الفلسفية “العملية “pratique. رؤيته لابعد من أوروبا منتصف القرن التاسع عشر الذي خلق فيه وعاش في كنفه وتفاعل مع أفكار رجاله ومفكريه ( اوغيست كونت /جورج زيمل/ ماكس فيبر/ اليكسي دو توكفيل). كان الرجل يعي جيدا أن إخراجه الفكري عليه ان يتجاوز نظرة معاصريه وهو يقيم الدنيا بموضة للتفكير ,تدعي قلب القواعد والقوانين بجعل البروليتاريا الناجمة عن المجتمع الصناعي الطبقي هي المتحكمة في قواعد أو أدوات الانتاج محرك التاريخ … كانت أمامه إشكالية وحيدة وهي: كيف انفلت من تحت خطواته العلمية والعملية الماركسية مفهوم النقابة ؟!
ان النقابة أو العمل النقابي الذي خلقته الحياة الاقتصادية الغربية، وهي تستمد من العلم سلطانها… الذي جعل الصناعة روحا للعصر باوروبا مستفيدة جل دوله من مفهوم ” الخيرات العظمى “للمواد الأولية القادمة من خارج القارة واليد العاملة التي أرهقتها مفاهيم “تايلور” للعمل . حيث كانت هذه الحركة Mouvement غير مبالية بمكانة الفرد وتوكيد الشرائع والقانون على ذلك : ( مونتيسكسو / روسو/ ديدرو/ هوبز / كانط/ مونتين/ ديكارت / سبينوزا). كان الجو الساخن للصناعة الغربية لا يهمس باستعمال غير التحليل بادوات باردة للقضية المتعلقة بالانسان الاوروبي، الذي بات أخيرا بنظر ماركس يعيش “الاغتراب” alienation.
هنا ستبرز النقابة مستخدمة العمال والحق من أجل استحقاق يعيد مناقشة الأجر وظروف العمل التي ما كان من نظام تايلور حول مفهومه للتسييرManagement إلا مزيدا من تعبيد الطريق نحو انتاجية كبيرة واستعباد المواطن / العبد لفائدة الصناع ومالكي وسائل الانتاج الكبار …كان الفعل النقابي ‘انفلات “من بين البناءات النظرية لماركس, لأنه في الأخير سيعرب عن سخطه حول ظهور هذا التنظيم لحظة البناء المفاهيمي لمجتمع ( لا تراتبي/ لاطبقي) لتحل النقابة (تراتبيا) سهوا ، مشكلة طبقة ستتصرف بالعمالة وفق مزاج غالبا ما لا يخدم العامل والشغيلة، إلا وهذه الأخيرة تخدم مصلحتها واوضاع مالكي وسائل الانتاج ،وكان القرن العشرين سجالا لهذه المعارك ( نقابات / شغيلة ).
انتهى ماركس وحلت واجهات الصراع بين المالكين والنقابات المدافعة عن حقوق العمال تارة…وصار على الذرب بدول العالم الثالث تشييء(العامل والأجير والمستخدم) والتواطؤ على حقوقه تارة أخرى من خلال Doxa ماركس نفسه، صار بالنهاية إمكان الادعاء، أن العمل النقابي لم تعد له راهنية بالمطلق، وهي الحالة المغربية التي تعيش اليوم على وقع “أزمة النظام الأساسي” الذي يرفضه رجال ونساء التعليم ، وكان من نتائجه توقف الدراسة قرابة ثلاثة أشهر ،ونتائج تعيد إلى الأذهان وقائع “الاغلاق” أيام كورونا حيث التلاميذ بالبيت وبالشارع والملعب، وأي مهمة يشاء رب الأسرة وأولاده إلا أن يتذكر هو وأبناءه الفصل الدراسي والاستاذ واسوار المدرسة والطبشورة.
فهل اليوم يمكن الحديث عن نهاية النقابة ؟ و هل نحن إزاء نهاية الفعل النقابي بالمغرب باعتباره فعل اتفاقي conventionnelle ؟
فعليا يأتي دائما العمل السياسي مرتبطا بالعمل النقابي منذ أن برزت المؤسسة السياسية للتعبير عن ادوارها ( الدستورية)، وقبله خطابا مضادا للسلطة لخلق التوازن من خلال وظيفة الصراع الاجتماعي وادواره في النظام الاجتماعي ( جورج زيمل ) باعتباره فعل غير اتفاقي Non conventionnelle , فكان لابد أن تحتضن هذه الأداة كلا المجتمع : تلاميذ ( اباء و أولياء ) ، طلبة ،اساتذة واداريون … ثم الفلاحين، العمال، التجار ، الحرفيون، المستخدمون، الموظفون ، الأطر ، وكان كذلك مفيدا احتضان الحزب لممارسي المهن التي خرجت تلقائيا لإعلان نفسها بالشارع العام ونتحدث عن (الفراشة ) الذين صار بإمكان الأحزاب تبني قضاياهم، لكن يبدو كذلك أن الأحزاب هي الأخرى لم يعد لديها دور بارز سوى تنصيب الأمين العام للحزب وتعميده كل فترة (3_4_5_6_)سنوات, معلنا نفسه من جديد بشكل ضمني ( جيمس سكوت): ها اندا امينكم أو رئيسكم أو (زعيمكم )الذي كان أول الأمر ولا يزال يحبكم وتحبونه حتى على كراهتهم له ، وحتى على كراهة النقابيون لنقيبهم الذي يدعي أنه يحبهم كل عام وكل إعادة اعمار له بالنقابة من جديد …عموما صارت الأحزاب والنقابات افرازات غير خلاقة ، مع أن حقل العلوم السياسية توجد فيه عبارة مهمة تنعث الدولة “باخلاق الدولة ” وهو ما يظهر في ممارساتها في كل الأحوال. وفي الحين الذي يطلب من بقية الفاعلين ممارسة “أخلاق الحضارة ” أي أخلاق باقي المؤسسات باعتبار الدولة من خلال ماكس فيبر “مشروع سياسي ” يشيد من خلال مؤسسات تتسم بالفاعلية والجودة والاستدامة والإستجابة للحقوق وامتلاك الشرعية والمشروعية ،فان هذه الرهانات والادوار والأخلاق على باقي المؤسسات أن تستعين بها “نموذجا” لقضاء الحوائج.فكما الدولة يتعين على الأسرة والحزب والجمعية والنقابة والتنسيقية والتمثيلية والتعاونية والفيدرالية وغيرها من التنظيمات والمؤسسات أن تعطي العبرة باخلاقها …في فعل التداول ،وفعل الالتزام ، كي لا تنتهي الأدوار ، لكن يظهر ان هناك ما يعطي الانطباع بأن الحزبي والنقابي انتهى منذ فترة وانتهى الرهان عليه، و ساسوق هنا بعض الأمثلة عن هذه التوقعات :
-دستور 2011 ، كان الرهان في المشاورات على مستوى كل الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية والاجتماعية والاقتصادية ،وجاءت الأحزاب كما الباقين لتدلي براي لا يعكس أهميتها، بمعنى أنها لم يطلب منها أن تكون أكبر من الباقين.
-ازمة كورونا كانت “أخلاق الدولة ” هي الحاضرة من خلال ادوارها في حماية الأرواح ، ولم تكن الاحزاب السياسية قادرة على لعب أي دور ولا النقابات.
-زلزال الحوز لم يطلب من الأحزاب أي دور ريادي ولا النقابات، وبالتالي كانت الأدوار الشعبية والافراد وجزء من المجتمع المدني هم الفاعلون الحقيقيون في العملية
-سجل السكان الموحد والسجل الإجتماعي هي جهود لتنزيل ( الدولة الوطنية l’état nation) دون الحاجة إلى النقابة والحزب .
-فوز المغرب بتنظيم كأس العالم 2030 كان بعيدا عن أي دور او أدوار ريادية (للدبلوماسية الحزبية) بل من خلال نتائج فعلية للرياضة باعتبارها soft power قوى ناعمة جلبت للمغرب تنظيم مناسبتين (إفريقيا+ كأس العالم ).
-مراجعة مدونة الاسرة-وتعديلها، لم يكن من صلب مطالبات للسياسيين على مستوى الحزب أو النقابة ، ولم تكن هذه التيارات تملك الأدوات ( دراسات، مراصد، مراكز بحثية ) لاضفاء نوع من الحاجة وفتح النقاش العمومي حول وجود اختلالات وازمات تحتاج إلى إعادة مراجعة مدونة الأسرة قبل إعلان الدولة والترافع حول جملة قضايا باعتبارها تقع ضمن ( السياسات التعاقدية ) لهذه المؤسسات مع المواطن.
-غياب أي دور للاحزاب والنقابات في الأزمات الإقليمية من خلال( البعد العاطفي الوجداني) للعلاقات .
ان العمل الحزبي والنقابي بالمغرب يكاد اليوم ينعدم فيه أي دور خارج مناسبات إنتخابية (استحقاقات المراحل )، سواء تعلق الأمر بفرز مجالس جماعية أو إقليمية وجهوية وبروز برلمانيين ، كل هذا لم يعكس جودة الفعل السياسي ولا النقابي الذي يظهر من خلال ممارسة الفاعلين الترابيين بكل الجهات ويمكن الرهان عليه، ولا يعكس جاذبية العمل السياسي الذي صار يهدر اموالا كثيرة ،ويطفو الى السطح مفهوم ( المتابعات القضائية) لهؤلاء الفاعلين ،ويصبح الفعل السياسي مشبوها بتقدير المواطن البسيط الذي يحكم عن المشاركة السياسية وعلى السياسي بأن مصيره : إما ملاحظات للمجالس الجهوية للحسابات ، وان أفلت فإنه سيراكم ثروات يستفيد منها هو ومقربوه ، أي بات” التمثل” باعتباره حالة سيكولوجية ذهنية هو الحكم العام عند الجميع على النخبة او المفروض ان تكون نخبة elitism .
وهنا ساعود إلى وجاهة تقرير الخمسينية الذي كان يستشف رؤيته ساعتها للخمسين سنة من التنمية البشرية لما بين 1955-2005، وما جاء من أستنتاجاته بكون الصراع الذي عمر طويلا بالمغرب ربما لو توفرت مرونة اكبر لكانت النتائج اعظم على مستوى معاني حياة الأفراد والجماعة على مستوى مؤشرات التنمية .
الى هنا نتساءل : هل ما تزال الأحزاب والنقابات تؤمن بالفعل بادوار عليها القيام بها كما يقتضي ذلك مجال اشتغالها، مخالفة أحكام الفيلسوف الفرنسي ( رايمون ارون) Raymond Aron الذي تحدث كثيرا كون السياسة عمل لا اخلاقي amorale / immorale
و إذا ما سلمنا بالفرضية التالية :
أن المجتمعات الإنسانية لما بعد الحداثة لم تعد تؤمن بالقطيعية troupement, بل يظهر أن مكانة ( ego individual )الفردانية الأنانية هي أكثر اشكالات القرون القادمة مهما تحلى السياسي والنقابي والفاعل الاقتصادي والفاعل المحلي بأعلى درجات التماهي مع ” المشروع السياسي ” أو مع الدولة .