NEET

0

صبري يوسف كاتب رأي وباحث في سوسيولوجيا التنمية

 

كان دائما في الفكر الفلسفي الغربي ما يستدعي التوقف عند معنى (الفن) l’art ?

وكان الذين يعدون فلاسفة متاخرين و متاثرين بالتكنولوجيا في احيان كثيرة لا يجدون حرجا في القول بأن الفن مرادف للتقنية و (الإنسان الالكتروني) android، ويسردون الارهاصات الأولى في فلسفة الفن واعتبار المرحلة الصناعية هي البدايات الكبرى لهذا الادعاء ، عموما يشرح ( برنار ستيغلر) أن التيكنولوجيا اليوم هي آخر المراسي الفارقة في الفن باعتباره انتاجا تتحكم فيها لحظات تعود الى محطات كبرى ، قد يتفق معه فيها البعض بينما آخرون يرون أن “الفن” مرادف الجمال ,ويعترضون على رؤيته المرتبطة بفيلسوف اشتغل طويلا على” الذكاء الاصطناعي” وساهم بشكل لافت منذ الثمانينات في هذا المجال قادما إليه من تكوين وموهبة و لحظة سيكولوجية تدعى مفاهميا ب :acting out كما يلزمه شرح ذلك عن” فرويد وجاك لاكان”. أو بمعنى آخر أن ( ستيغلر) نتاح موضوعي لظروف تصرف فيها يوما ما” بدافع” …جعله يقترف جرائم استطاع على كل حال في نظام مؤسساتي ضبطي مؤهل ودامج Institutions carcérale أن يعيد الى الرجل الفيلسوف صوابه، وان يعتلي أكبر المؤسسات الفرنسية للتربية والتكوين والتفكير think tank ، وهو ما لم يتاتى لغيره من معاصريه بل وأن يصبح عاشقا للجمال والفن و له طرحه النظري الذي سيتجاوز فيه حدوس وملكات مهندس فلسفة الفن (برجسون) نفسه.

يقول ( ستيغلر) “ان سؤال الفلسفة سيظل قائما للبحث فيما بين الصواب واللاصواب ، الخير والشر ، الحقيقة والكذب”.

استحضار هذا المعلم الذي غادرنا عام 2020 لم يكن عبثا ،وانما أملته الظروف التي علينا التوقف عندها بقليل من الحكمة و التاني فيما سيأتي.

في قبة البرلمان يصرح رئيس الحكومة المغربية ، ومن خلال الأرقام طبعا؛ أن 330 ألف تلميذ يغادرون كل سنة المدرسة العمومية ، وان 49 من الطلبة لا يتوفقون في الحصول على الإجازة، بالمقابل 70 في المائة من التلاميذ لا يستطيعون قراءة نص فرنسي او عربي يتشكل من بضع كلمات ( 15_80) كلمة .

في سوسيولوجيا الانحراف sociologie de déviance مع جملة من الباحثين الكبار ( دوركايم ، المدرسة الايطالية ،جورج بلاونديي) كان يحضر دائما هذا الربط الفقهي القائم على مجموعة معطيات بحثية وليس كلام “بضاعة “. محتواه أن التنمية عملية (بنيوية ) كما كل الموضوعات ، أي أنها : جملة Totalité,تحويلTransformation, وبالنهاية خضوع لمفهوم ثالث وهو الضبط الذاتي autorégulation …لا أريد الخوض مع القارئ الكريم في تعقيد علمي كبير (فلسفي- لغوي- نفسي-انثربولوجي- بيولوجي) إنما أريد التشديد على معركة وحيدة علينا اليقين بأنها المدخل إلى أي تنمية وأي تغيير… وهي معركة (المدرسة) كما يسميها تيار بورديو “في علم الاجتماع لتفسير إعادة الإنتاج la reproduction.

وبين التيارين الأمريكي ( الانجلو ساكسوني) و(الاوروبي الفرنسي- الألماني) , كانت ولا تزال القضايا المرتبطة بالتنمية محركها “الانسان” شرطا وضرورة causalité صارمة، فهو محور هذا التغيير والفاعل فيه ، لكن سيقال في كل مكان ويحدث على سبيل المثال : أن دعونا نستورد النماذج التنموية القادرة على تغييرنا ! ترى هل يمكن ذلك ؟

اذا كانت البنيات بالاصل متفاوتة في كل المجتمعات على مستويات تاريخية وبيولوجية (فوكو) من خلال تيكنولوجيا بيو -تعددية ، جمالية (كدامير )، صراعية ( ماركسية ) ،فهي بالتالي متفاوتة داخل البلد الواحد والمجال الجغرافي الواحد ، والقرية الواحدة ، وبالتالي وإلى حدود هنا يمكن تلقائيا الاستفهام حول : أي ( نموذج paradigme) مطروح للتغيير ؟ بينما و في معرض حديث رئيس الحكومة أمام مجلس النواب، وبحضور وزيري التربية والتعليم العالي ،ومن خلال تلاوة أرقام تعتبر من واقع (بنية التعليم والتربية والتكوين ) بالبلد، فالذين في رؤوسهم عقل سيتضررون من سماع هذا التداعي الخطير، الذي يحبس الانفاس ولا يعكس الا القول بأن التنمية ( النمو, التنمية البشرية ،التنمبة المستدامة ) في موقف يدعو الى اتساع “المنطقة الرمادية “على المستوى المتوسط والبعيد محليا ،جهويا دوليا، في عالم تتقادم فيه ( المهارات،المعارف،التقنيات، الادوار) ، لأنه مجتمع بات سائلا fluide ( باومن) على كل النواحي، حتى فيما يتعلق بموضوعات الحب والعاطفة …صارا سائلين من خلال مقولات (افا ايلوش Iva illouch , التي صرحت اكثر من مرة ببروز عصر تسليع علاقات الحب la marchandisation des relations d’amour

بالرجوع الى “سوسيولوجيا الانحراف” التي تبحث أو تريد فهم العلاقة بين ( الاجتماعي والسلوكي ) عبر مجال واسع التفاعلات والرهانات والسياقات والبنيات، التي تبقى مهما حاولنا فهمها خطا ليس بالمقدور تغيير مساره إذا لم نمتلك ما يكفي من الجرأة والقدرة لاعطاء أولئك الفاعلين أو منح العلم شكله الغير” المتحيز” ليقول كلمته… فيما يتوجب فعله في المدرسة التي عليها أن تظل مجالا للتفاوض والتكافؤ والمنافسة والتمايز وليس التمييز، لأن الشارع الذي تريده غدا معك في المهام الصعبة و يحتضن جميع المبادرات ، قد يتحول إلى بنيات للحراك الاجتماعي ( الان تورين Alain Touraine آصف بيات).

عندما أراد الاستاذ إدريس الكراوي الحديث عن أزمة المدرسة اختصرها في كتابه ( التنمية ،نهاية نموذج ) في بعدين “الذاتي “, الذي يتحمل فيه التلميذ والطالب المسؤولية ، و”الموضوعي ” المتمثل في الإدارة والأستاذ بنظره. تبقى هذه رؤية اقتصادي واحكام عامة في غياب ابحاث علمية “محلية ” ،بينما الاتجاهات الكبرى في علم الاجتماع المتحمس دائما للخوض في موضوعات يعتبرها تحت سلطته ( المعرفية ) الكمية والكيفية, هي أبعد من مجرد الحديث المتفائل عن امكانيات النظر إلى المدرسة أو التربية فقط في ( الذاتي والموضوعي ) النسبيين ، وإلا فإن ما تنتجه حقول الانثربولوجيا الغربية ( الاجتماعية والثقافية), وهي تعيد كل مرة تأهيل نظام ( التنافسية ) داخل مؤسساتها التربوية ليس فقط من خلال تغيير المناهج ورؤية المربي وسور المدرسة ولوازم الطالب الباحث وسنه، بل من خلال قيم معيارية علمية ترصد المتغيرات والتحولات والانتقالات داخل” علم اجتماع التغيير” ، يغلب فيها النقد المكثف البريء بادوات ساخنة تبحث في تاريخ الممارسة في مجال معين ينظر إليه أنه معيق للتنمية .

اعتقد أننا بحاجة لفهم: ماذا ومن أين علينا بداية البحث في البنيات ووظائفها الأولية الأساسية والثانوية ، منها إلى تعزيز ادوارها اللاحقة كما يحدث عادة في علم النفس الاكلينيكي، للقضاء على هذه الأرقام المؤرقة في غضون عقود قادمة وإلا سوف تصبح امراضا لها هي الاخرى “بنيات ووظائف “يصعب تتبعها والقضاء عليها ، هنا أعود إلى فيلسوف التيكنولوجيا (بيرنار ستيغلر ) في تجربته الحياتية parcours de vie ، وتاهيله ودمجه ومناقشة دكتوراة على يد استاذ كبير ليس إلا الفيلسوف ( جاك دريدا )! فالحظ ليس دائما في صف الإنسان إذا كانت البيئة التي ينتمي إليها غير قادرة في مناسبات وظروف بحكم (الديمغرافية) التي تصبح في سابق الصعوبات مقابل لاحق( الموارد) ، وغياب أفق لتأهيل ودمج الملايين من الهامشيين والمنبوذين والفقراء والمقهورين الذين كانوا من قبل من (احتياطي ماركس ) الغير المتعلمين NEET، كله على حساب اولويات اخرى بمعدل” تكرارات ” كبيرة كما تشتغل على ذلك تقنيات الاحصائيات المعمقة . والحكمة تستقيم بنفسها هنا للقول فيما يتعلق بخاطرة مفادها، بأن” البدايات الخاطئة غالبا ما تسفر عن وصول خاطئ” , ففي حالة الفرد الأمر لا يلزم الجماعة ويكون شخصيا يحتاج دفاعا ذاتيا فقط ، لكن” التصنيف الاجتماعي “يصبح أكثر ضراوة في حالة ” الجملة la totalité”، بمعنى حينما تتخطى الظواهر الاجتماعية إمكانيات التحكم فيها ومراقبتها وايجاد الحلول لها .

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.