Banniére SIAM

إدريس الخوري.. بوكوفسكي المغربي الذي ظل عصيا عن الترويض

0

“أنا لم أضحك، ولكن الذي استغوى أساريري

 

انتصاراتي على الموت، امتدادي في مهب الريح

 

تفجيري الأسى

 

في سطوة الدهر اللعينة، أنا من أسلم للخلد يقينَهُ”.

 

أحمد المجاطي

 

كان إدريس الخوري معجون حزن لا يوصف، لكنه نجح في تحويل حزنه وآلامه إلى كتابة إبداعية باذخة، أو إلى سخرية لاذعة خالدة.. لذلك ظل عصيا عن الترويض والانضباط لسلطة المؤسسات بكافة أشكالها، مثل شجرة باسقة ظل “بَّا إدريس” مشدوها لأصوات تأتيه من سماء بعيدة لا تُظلل أفقنا، سماء لا تصلها أيدينا.. يُكَوِّم الليل في النهار قبل أن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، وينسج من خيوط النهار حكايا للمساء، كي لا تنام النجوم، لعل ذلك مصدر خبرته بدهاليز الليل وبالجغرافيا السرية للمدن الكبيرة والصغيرة على السواء!

 

جاء من الهامش بحظ قليل من التعليم، وبعصامية نادرة فرض اسمه وإبداعه في الأدب المغربي الحديث وترك بصمة من ذهب، ظل دائما يقتعد عروش الهامش، يُعدُّ البيوت لمن يسكن الخيام ويُحصي خسائر الحياة لمن لم يولد بعد.. ويمتص رحيق الغمام لأن كل مياه الحياة لا تُطفئ عطشه.. مقروء با إدريس كان هو الحياة أكثر من الكتب، كل شخصية وكل جلسة هي كتاب مفتوح بالنسبة إليه للغوص في الأعماق البشرية.. لقد وفى كل ديونه للدروب التي احتضنته، للمقاهي التي كان يجعلها منصة لتأمل العالم والسخرية من فظاعاته.. فظل قويا وشامخا حتى رحيله. جرب كل أشكال الألم من الفقر والحرمان إلى ضربة الفقيه بعصا “الجبوج” التي تسببت في عاهته، إلى باقي الانكسارات والفجائع، لكنها لم تنل من عريكته، لأنه ظل ممتلئا بشراهة الحياة.

 

ظل إدريس الخوري يُخلط الليل بالنهار، والنهار بالليل، كما لو أنه يبحث عما يجعل الشمس تشبه الحقيقة، وما يجعل الليل يماثل قبلة عاشق يموت صبابة على جبين النهار.. لم أر إنسانا مثله تستهويه الحياة وتشده إلى التفاصيل الدقيقة منها، مثل ثنايا فستان أنثى تمشطه الريح أو ترصد وهجه ريشة فنان موهوب..

 

لا تستطيع أن تعادي با ادريس، لأنه حكّاء، والحكواتيون قلة حد الندرة، إنه من نوع الماهدين الخالدين، الذين يطاردون سماوات غير تلك التي نراها، ونحتاج إلى زمن لنعيد بناء علاقة موضوعية بما خطّه بحبر قلمه ودم قلبه، في الصحافة كما في الإبداع القصصي، وفي تجارب باذخة في الحياة كما في نقده الذي يكشف عن أفق معرفي شاسع، حتى صداميته وما يخيل للبعض أحيانا كجرأة وقحة أو زائدة عن اللزوم.. هي جزء من هذا الكل الإنساني والإبداعي والثقافي الذي شكله إدريس الخوري في مجتمع يتلمس بصعوبة طريقه نحو الحداثة..

 

بادريس كان هجّاء ولم يسلم أحد من نقده، لكنه في عمقه كان هناك طفل مرح، تخرج القهقهات والانتقادات اللاذعة من فمه مثل فراشات سوداء يحاكي لونها كل ذلك البؤس الذي كانت تمطرنا به الحياة والتفاهة التي تتراكم مثل الذباب الموسمي في الإبداع كما في الصحافة والثقافة وكل المنتوجات الرمزية..

 

فقدنا كاتبا كبيرا في عمقه الإنساني وفي قدرته على أن يلتقط التفاصيل الصغيرة والقضايا الكبرى التي كان يصوغها في قصص قصيرة وفي مقالات صحافية أو نقدية بديعة..

 

ظل إدريس الخوري يخاف على أحلامه من العبث، لذلك يُسَوِّرها بغلاف شفيف، يُخفي أحزانه حتى عن المقرَّبين منه، بابتسامات ساخرة نظل نطاردها مثل خيط وَهْم.. في انفلاته من جسده يختبئ إدريس الخوري في فكرة أو ثنايا حلم، وفي فراره من مطاردة فكرة جِنِّية يختبئ في جسده مثلما اختبأ “يوسف في بطن أمه”، وبينهما ينتشر لحظات بين اللغة وظلها، بين الوجود وسحره.

 

ليست غُربة الكاتب عن المدينة هي ما نلمسه في إبداع الخوري، بل تشوُّهات الأمكنة إلى حد المسوخ، وإذا كان الرجل كائنا غير زمني في معانقته للحياة، فإنه يقيم في الأمكنة ذاكرة ومعنى، لذلك نحس في حكاياته حنينا قاسيا لمدام كيران وملح وإبزار و”مطروبول” ومدام بوليت وزوجها الموسيقي موسيو جورج…

 

أمكنة موشومة بذاكرة التيه في مدينة أشبه بالوحش الأسطوري، نحس كما لو أن إدريس الخوري ذاكرة تسير على قدمين، تختزن في ثناياها شغب الأطفال وحكمة الشيوخ، ذلك أنه في الوقت الذي كان يكدس فيه الآخرون علف السنين من وسخ الدنيا وينمون أرصدتهم البنكية، كان “با ادريس” يكدس الأحلام والجراحات والأوهام أيضا!

 

لست من الذين يبنون أمجادهم على ادعاءات القرب من الكبار، وإنما من يحتفظون بوارف علاقة فيها الكثير من عنف البؤس، ونشوة الإبداع، فقد كتبت عنه في زمن مبكر، وكتب عني قبل أن نلتقي، وكان الصدق بيننا هو التجلي الأسمى إذ لكل منا ضعفه المحض الإنساني وتفوقه المتفرد في مجاله.

 

رافقت بادريس في الداخل كما في الخارج، في ضعفنا الإنساني المشترك كما في قوتنا لا تحد، في انزلاقاتنا وهشاشاتنا الصغرى كما في أنفتنا وكبريائنا، في المساءات التي لا تنتهي كما في ضجيج النهارات الحزينة والمرحة، لوحدنا وجها لوجه كما برفقة أصدقاء كبار لا زالوا أحياء..

 

في تصادم الخطو بيننا في زْوِيريخ بسويسرا ذات ربيع، كنا وحدنا عند منبلج الفجر.. جلسنا قرب تمثالين رائعين بفندق “موفمبيك” نحتسي ما تبقى من ألم وننسج مما فَضُل من خيوط الليل لباسا لعراء النهارات القادمة، فقال لي ممازحا:

 

لو كانت هذه التماثيل في قلب العاصمة الرباط، كيف كانت ستكون شخوص حكاياتنا؟

اقترحت عليه أن نحملها خلسة في الحافلة التي سَتُقلُّنا إلى المطار، صمت برهة وهو يحك شعره، كما لو يستحث فكرة على الخروج بسرعة، وقال مستحسنا:

 

أجمل الأفكار هي تلك التي يقترحها الجنون وينفذها العقل!

وقام محاولا اقتلاع التمثال الضخم، وحين أَعْيَته الحيلة صعد إلى أعلى تمثال في ساحة الفندق، وابتلع كل قهقهات المساء ونام بأمان مثل طفل شقي يرفض كل أوامر الطاعة ووصايا السَّدَنَة!

 

أحيانا يُخيَّل إليَّ أن إدريس الخوري منتوج خيال وليس كائنا تاريخيا، يأبى على التصنيف.. بلا حدود يحكي، عن الحدائق التي لم تعد تُلهم الشعراء والرياض التي جفَّ ضرعها ولم يصبح بإمكانها منح زهرة يهديها العاشق لمعشوقته، عن الكُتاب الذين عاشوا بالصحبة وفرَّقت بينهم سُبل الحياة.. كانت الكتابة أكبر مهنة للوهم ساعدته على اقتسام رغيف الحب مع من عشقوه، ولأن قسوة الأيام كانت أقوى من كل وَهْم، فقد تعلم “بَّا دريس” كيف يحول الآلام إلى سخرية يطلقها مثل عصافير تتمنَّع عن العيش في قفص صدره.. وأنت سير.

 

في صمته قد تسمع إيقاع انكسار الموج على الرمل، وتُحس بوجع ذبول وردة في مزهرية، وتسمع هسيس حكايا ما تقوله النحلة لحظة توديع وردة، وفي انفلاتاته انتظر الهباء وكَوْمة من غضب.. ليس أبهى من إدريس الخوري في لحظات صفائه حين يكون متصالحا مع الوجود، يبدو شفيفا مثل نبي لا يحب حشد الأتباع والحواريين. ويسخر “اللاكس فاكس”.

 

سيظل با دريس حيا فينا حتى ولو ووري التراب.. ليس فقط لأنه ترك أبناء من صلبه الطبيعي أو الثقافي ليترحموا عليه، ولا فقط لأنه سيظل وشما على جسد الإبداع القصصي المغربي والعربي، ولكن لأنه ترك فينا أثر حياة تهزم الموت الذي هزمته الفنون والأشعار والمعمار الخالد.. ترك فينا ما هو غير مشمول بالعزاء.. بسمته، ضحكته، دفئه الإنساني، روح السخرية فيه، حيث يتحول الحزن المعتم إلى أناشيد موقعة..

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.