هريرة والمسلم
صادف وجودي يوم السبت 11 ماي 2024 داخل فضاء المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي بات ينظم في مدينة الرباط، تلك “القيامة” الصغيرة” التي وقعت حين غمرنا فجأة ذلكم السيل من اليافعين واليافعات، الذين أتوا في ساعة مبكرة، ووقفوا في طوابير ازدادت سمكا وطولا مع مرور الساعات، حتى اختنق بها الفضاء المخصص لاحتضان أكبر معرض للكتب تشهده مملكتنا، وبدأ الاضطراب والإغماءات التي دفعت العيون الأمنية التي تراقب الحدث إلى إخراج الرجل الذي حجّت من أجله تلك الألوف من الشبان والشابات، وهو الروائي السعودي أسامة المسلم.
أعترف بداية أنني وكغيري من جميع، نعم جميع وبدون استثناء، من التقيتهم يومها من أصدقاء واقعيين وافتراضيين، من جميع الأجيال والفئات العمرية التي ينتمي إليها معارفي، وكلهم ممن تجاوزوا العشرينيات من العمر، سمعت لأول مرة باسم هذا الكاتب لحظة اكتشافي هذا “الإنزال” الضخم وغير المسبوق ولا المألوف في فضاء “نخبوي كمثل المعرض الدولي للكتاب.
انغمست منذ تلك اللحظة في عالم “أشهر كاتب غير معروف” كما يحبّ أن يصف نفسه، محاولا فهم ما وقع لنا حتى فتحنا أعيننا فجأة على عالم مواز لم نسمع به قبل أن يخرج علينا حاشدا كل تلك الجموع. وتابعت جل النقاشات، الواقعية في أروقة وممرات المعرض، وافتراضيا في الشبكات الاجتماعية، محاولا جمع أطراف الموضوع وفهمه.
أكثر ما شدّني في هذا النقاش، هو هذا العجز حدّ “الثقاف” الذي استبدّ بنا أمام ما يجري حولنا من تحوّلات، وإصرارنا على استقبال الوقائع والأحداث بمدافع الأحكام المسبقة واليقينيات والاحتماء بالمتاريس الرملية، ومسارعتنا إلى إنتاج المواقف والأحكام بدل عناصر الفهم والاستيعاب، فأصبحنا فجأة بين مؤيدين ومعارضين، كأننا أمام دين جديد جاءنا نبيّه مبشّرا، بينما نحن أمام رسالة قصيرة جاءتنا من المستقبل: أن استيقظوا إن عالما جديدا يتشكّل، ويولد معه أنسان جديد لا يخضع بالضرورة لقوالبنا القديمة وأدوات فهمنا العتيقة.
شعرت لحظتها وأنا المواظب، كلما سنحت لي فرصة اعتلاء منصة نقاش أو تقاسم معرفة، على التحذير من بعض الأعراض الجانبية لتقنيات التواصل والذكاء الاصطناعي الجديدة، ومنها ما يعرف ب”غرفة الصدى” و”فقاعة التصفية”… أي تلك الدوائر الصغيرة التي تحاصرنا فيها خوارزميات المنصات الرقمية، لتنمّطنا داخلها وتحوّلنا إلي منتوج قابل للبيع في سوق الإعلانات، (شعرت) أن هناك أخطر من غرفة الصدى الرقمية، وهو هذه الغرفة الواقعية التي اكتشفت فجأة أنا ومن يكبروننا أننا محاصرون فيها، بينما انتقل جيل أبنائنا وشبابنا إلى عالمهم الخاص الذي أتونا منه بكاتبهم المفضل ليحطّموا كل تمثّلاتنا البالية حول الكتّاب والأدباء المرموقين والمستحقين لوقفة انتظار لنسخة ممهورة بتوقيعهم.
هل يستحق أسامة المسلم أن نعترف به كاتبا وأدبيا أم لا؟ “طز” فينا وفي جوابنا سيردّ علينا واقع الحال، لأننا لا نطرح السؤال المناسب أصلا.
بجولة متأنية بين صفحات بعض إصدارات هذا الروائي السعودي التي جاوز عددها 26 إصدارا، ومشاهدة ما تيسّر من حواراته وتسجيلات جلساته المباشرة مع جمهوره، نكتشف أننا أبعد ما يكون من انطباع بعضنا المتسرّع.
لسنا أمام تافه قطرَ به سقف الشبكات الاجتماعية ولا متطفّل على مجال الكتابة. هو إنسان بتجربة حياتية ملهمة وخاصة، تروي فصولها الكبرى الشخصية الرئيسة لرواية “خوف” التي كانت في الأصل عبارة عن يوميات شخصية يبوح فيها لنفسه بما خلّفته لديه تجربة الانتقال من أمريكا حيث عاش سنوات طفولته الأولى، إلي بلده الأصلي العربية السعودية، من “صدمة حضارية” كما قال شخصيا في أحد استجواباته، موظفا قالب الفانتازيا الذي ولد في “الشرق” لكنه توقف عند “كليلة ودمنة”.
هناك شحنة كبيرة من “النية” في مسار الرجل، حتى أن جل ما يحققه من طفرات ونجومية يأتيه صدفة ليطرق بابه، فلا يزيد عن استعمال مفتاح البساطة في التعبير والحرفية العالية في نسج خيوط القصة وإطلاق العنان للخيال ليمتح من الهواجس والاستيهامات والغيبيات الدينية، لدرجة يصبح فيها ذلك الخيال أكثر واقعية من الواقع نفسه.
أقصد أن هناك إنتاج أدبي حقيقي، قد لا يعجبنا، لكنه يمنح الاستحقاق الكامل لأسامة المسلم لحمل صفة الكاتب والروائي، يميّزه حنوّ ذكي على جيل عربي، فتح أعينه على فراغ شاسع بمساحة الكون، فلم يمارس عليهم أستاذية ولا وصاية، بل أخذ بأيدي أحلامهم وهواجسهم، وسلّمهم قلمه لدرجة أنه كتب رواية كاملة بشخصيات معجبيه الحقيقية وتنازل لهم عن حقوقها كي لا يتاجر بها.
هل يعني ذلك أن أدب الرجل وكتبه هو (فقط) ما أتى بتلك الجموع من اليافعين، ومنهم من باع أغراضه الشخصية وجاء إلى الرباط مستعدا للنوم في الخلاء فقط كي يحصل على نسخة من كتاب وتوقيع شخصي من الكاتب؟
كلا، وهنا أحد مفاتيح فمه ما جرى. الرجل ليس مؤثرا بالمعني المتداول لدينا للمؤثرين الرقميين. عدد متابعيه في حساباته الرسمية في كل من “تيك توك” و”انستغرام” يتطوّر ببطء وبالكاد تجاوز ال300 ألف. رقم تحققه أبسط منتجة لمحتوى “روتيني اليومي” لدينا.
جزء من سر الرجل أنه جمع بين كتابة ذكية تعزف على أوتار يافعينا الحساسة، وتمشي بتوازن دقيق فوق حبل فاصل بين المباح والمحظور، دينيا واجتماعيا، وبتحالف مدروس وملهم مع بعض المؤثرين، أبرزهم في حالة ما وقع في المغرب يوم السبت الماضي، شاب اسمه الحقيقي عبد الله ولقبه “بيرمون”.
هذا الأخير، الذي لم أعرفه قبل واقعة معرض الكتاب ولم أسمع به، هو قصة نجاح حقيقية أخرى، بل قدوة تستحق أن يحتذى بها، لموهبة حفرت مسارها في الصخر منذ نونبر 2023 على الأقل، حين لمس أثر تسجيلاته التي يحكي فيها قصصا حول كل ما هو مخيف بالنسبة للإنسان، وتحوّل إلى نجم “غير معروف” لدينا نحن أبناء “السكة القديمة”، ليصادف روايات أسامة المسلم ويحوّلها إلى حلقات مصوّرة موظفا أسلوب السرد القصصي ببراعة، ومستعينا بمؤثرات صوتية ومرئية، لتصل قناته، بصمت وتواضع، إلى عتبة المليونية.
هذا الشاب هو الذي أشعل شرارة ما وقع يوم السبت الماضي، حين دعا متابعيه إلى حضور حفل توقيع أسامة المسلم لرواياته، مع إغرائهم بتخفيض 50 في المئة في سعر الكتب…
لنلاحظ كيف أن الأمر معقدّ ومركّب ويستحيل تفسيره بعنصر واحد، أو قذفه بأي من المقولات الجاهزة والأحكام المسبقة.
ما وقع في معرض الكتاب لا يطرح سؤال القراءة والثقافة والشبكات الاجتماعية فقط، بل ينبهنا إلى هذا الإنسان الجديد الذي يولد أمام أعيننا، ولادة طبيعية غير قيصرية وإن كانت سريعة.
هذا الانسان لا يشبهنا بكل تأكيد، لكن المطلوب منا ليس الحكم عليه أو محاكمته، بل علينا فهمه واستيعابه والتأقلم معه، لأنه هو المستقبل، هو الآتي، هو ما سيبقى، أو كما قال أسامة المسلم نفسه في أحد حواراته: على الكاتب أن يسبق جمهوره لا العكس. بينما نحن نعجز حتى عن مسايرة جمهور الثقافة والأعلام، بالأحرى أن نحلم باستباقه.
هذا الانسان المغربي الجديد الذي يولد حاليا، رأيته أيضا وبشكل متزامن في قصة القطة التي كانت تستنجد مصدرة صوت مواء استغاثة مؤثر منذ انطلاق المعرض، أسفل الأرضية الخشبية لفضاء الصحافة.
صحيح أنني صادفت الكثير من نظرات الاستهزاء وعبارات السخرية ممن دعوتهم أول الأمر إلى التدخل لإنقاذ القطة المستغيثة، لكنني لن أعود إلى ذلك لأنني لا أريد إيذاء أحد من جهة، ولأن الجزء المملوء من الكأس هو ما يهمني مهما كان صغيرا.
صادفت في المقابل هذا الانسان المغربي الذي طوّر حساسية خاصة تجاه الألم والمعاناة حتى تجاه الحيوان، ورأيت الكثير (الحقيقة أن جلهم إناث) ممن استنفرهم الأمر وتحرّكوا وطالبوا وضغطوا… من أجل إنقاذ قطة عالقة (أو علق أحد صغارها لا ندري تحديدا)، ولم يهدأ لهم بال حتى قيل لهم لقد أنقذت المخلوقة البريئة.
لا أعرف بالضبط ما الذي حملني على الربط بين الواقعتين، أهو تزامنهما الزمني والمكاني؟ أم تأثير المقاطع التي قرأت من روايات أسامة المسلم؟ أم هذه سحابة الروحانية التي تغشاني منذ واقعة الموت المفاجئ للراحل عبد العزيز النويضي وهو يجيب عن أسئلتي…؟
لكن الأكيد هو أن أسامة المسلم معروف لدى جمهوره بحبه الكبير للقطط، حتى أنهم يحضرون “لايفاته” التكتوكية، وباتوا مشهورين بأسمائهم لدى جمهور الكاتب…
إنها مصادفات الهريرة الرباطية والمسلم السعودي.