“العيطة عليك آ الحادر عينيك”!
جمال بودومة
بلغ مهرجان كان السينمائي سبعة وسبعين عاما، لكنه مازال في كامل عنفوانه وأناقته، يلبس “البابيون” ويمشي برشاقة على ضفة المتوسط، يغري الفنانين والمشاهير وجمهور الفنّ السابع من كل جهات العالم. “كان” ملك المهرجانات. من التقاه مرة يسقط في حبه، ويعود إليه، متى استطاع الى ذلك سبيلا… سينمائيين وجمهورا وصحافيين.
المخرج الأمريكي فرنسيس فورد كوبولا، صديق “كان”، يكبر المهرجان بعشر سنوات، جاء ليزور صاحبه وفي يده هدية جميلة: “ميغالوبوليس”، ملحمة سينمائية مدهشة عن انهيار الامبراطورية الأمريكية. مخرج “نهاية العالم الآن”، يتنبأ بنهاية الولايات المتحدة الأمريكية أيضا. أجواء الفيلم قريبة من كتابَيْ “غرق الحضارات” و”إخوتنا غير المنتظرين” لأمين معلوف، كأن السكريتير الدائم للأكاديمية الفرنسية هو من كتب السيناريو!
روما الجديدة هي نيويورك، بتناقضاتها الصاخبة وعوالمها السفلية والعلوية. مدينة غارقة في التفسخ الاجتماعي والأخلاقي، تنخرها الشعبوية والتفاوت الطبقي، ويمزقها الصراع بين معسكر محافظ، يستكين للسقوط، وآخر مستقبلي، يتطلع الى إيقاف الزمن وإنقاذ الحضارة البشرية. عشاق الحضارة الرومانية ورموزها سيجدون ضالتهم في هذه التحفة. البطل اسمه قيصر، والأجواء رومانية … والسقوط لا مفر منه. كأنها وصية الفنان الذي سبق أن خطف سعفتين ذهبيتين، بـ”محادثة سرية” عام 1974 و”نهاية العالم الآن” عام 1979. إذا ربح “ميغالوبوليس”، هذه الدورة، سيكون كوبولا أول مخرج يرفع السعفة الذهبية ثلاث مراتٍ في تاريخ مهرجان كان.
لكنّ كوبّولا ليس وحده في السباق. من كبار المخرجين الذين رجعوا إلى المهرجان هذه السنة جاك أوديار. صاحب “نبي” عاد الى “الكروازيت” بفيلم موسيقي عنوانه “إميليا بّيريز”. المخرج الفرنسي دخل من جهة مفاجئة، وأدهش الجميع. ذهب إلى المكسيك، كي يصور عالم العصابات التي تخطف وتبتز وتقتل، خارج القانون، أمام عجز الدولة. فيلم غير منتظر من مخرج “ديبّان” (السعفة الذهبية عام 2018)، على إيقاع أغان جميلة بالإسبانية، بطله متحول جنسيا، ويتوفر على كلّ توابل التشويق من حبكة وحركة وخطف وجريمة وقصة حبّ مثلية. المثلية موضة العصر، ومعسكر الLGBT أصبح قويا جدا في السينما، مواضيعه تسيطر على المهرجان. كما تحضر قضية المرأة من باب “مي تو”. الممثلة الفرنسية جوديت غودريش، عرضت فيلما تحت هذا العنوان: “أنا أيضا”، عن الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها النساء في الوسط السينمائي.
أيامًا قبل انطلاق المهرجان، وضع المنظمون أيديهم على قلوبهم في انتظار الأسوأ، بعد أن راجت أخبار تتحدث عن لائحة من عشرة فنانين، يشاركون في الدورة، متورطين في اعتداءات جنسية، سيتم نشرها بالتزامن مع الحدث. الكل كان يترقب تحقيقا لصحيفة “ميديابارت” في الموضوع، لكن موقع إيدي بلينيل فاجأ الجميع بمقال يتبرأ فيه من كل هذه الاشاعات، عشية الافتتاح، وسط فرحة المنظمين.
عندما تتأمل مهرجان كان عن كثب، وتفحص الأسماء المشاركة، تكتشف أن الوجوه ذاتها تتناوب على مختلف المسابقات ولجان التحكيم، منذ عقود. إذا دخلت إلى “الفيستيفال” لا تخرج منه أبدا. تصبح فردا من العائلة. حين يغيب كوبّولا تحضر ابنته صوفيا، وحين يغيب نبيل عيوش تحضر زوجته مريم التوزاني بـ”قفطانها الأزرق”. مخرج “علي زاوا” حضر هذه الدورة بنفسه. دخل قصر المهرجان من باب “العيطة”. فيلم “الكل يحب تودا” قدِّم خارج المسابقة الرسمية ضمن فقرة “كان الأولى”، التي تعرض أفلاما محترمة. صحيح أن موضوع الشريط بات مستهلكا من فرط ما عالجته الدراما المغربية والأفلام الوثائقية، من وثائقي “دموع الشيخات” لعلي الصافي إلى مسلسل “المكتوب” لعلاء أكعبون، لكن عيوش وسمه ببصمته. مخرج “الزين اللي فيك” يعرف كيف يبيع مواضيعه، وقد استطاع أن يقدم أول فيلم مغربي عن الشيخات بنكهة دولية. البعض سيردد أنها “سينما المهرجانات” أو السينما الموجهة إلى المتلقي الغربي، كما في “أزرق القفطان”، الذي أنتجه عيوش وأخرجته مريم التوزاني، وشارك قبل سنتين في مسابقة “نظرة ما” بالمهرجان. لو أزلنا القفاطين، التي برعت في حياكتها رفيقة بنميمون، مصممة الملابس الموهوبة، وحذفنا أغنية “گعگع يا زبيدة”، التي تتردد طوال الفيلم، لاكتشفنا شريطا باهتا عن علاقة حب ثلاثية، لا تربطه أي علاقة بالمغرب. المثلية أيضا تبيع، لأنها موضة العصر. كما تبيع قضايا المرأة، وبين الدفاع عن القضية والركوب عليها خيط رفيع!
البناء الدرامي محبوك في “الكل يحب تودا”، على إيقاع سرد يتصاعد تدريجيا، دون أن تتبعثر خيوط الحكاية. تودا (نسرين الراضي) شابة تتقاتل مع الحياة في مدينة صغيرة، وتربي لوحدها ابنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، يجد نفسه خارج المدرسة بسبب إعاقته، تصنع المستحيل كي تدخله إلى في مؤسسة تتقبل إعاقته، وتحلم في الوقت ذاته بأن تصبح “شيخة” محترمة في فن “العيطة”.
هكذا تخوض البطلة معركة على جبهتين: جبهة الغناء المليئة بالذئاب البشرية، وجبهة إدماج ابنها في منظومة تربوية لا تستوعب ذوي الاحتياجات الخاصة. كي تربح المعركة، تقرر الذهاب الى الدار البيضاء. هكذا يتطور الفيلم على إيقاع “ريبرتوار” من روائع “العيطة”، والاغاني الشعبية، بين الكاباريهات والملاهي الليلية في الدار البيضاء.
“العيطة عليك آ الحادر عينيك”. منذ دخوله الرسمي إلى المشهد السينمائي المغربي بفيلم “مكتوب” عام 1997، التصقت بنبيل عيوش صورة نمطية تكرست مع توالي أشرطته: مخرج ولد بملعقة من ذهب، لا يعرف المغرب العميق، ويستغل قضاياه كي يبيعها الى الأجانب… هناك بعض الصدق في الصورة، وكثير من التجني. نبيل عيوش يعيش في المغرب منذ أكثر من ثلاثة عقود، يعرف خباياه، ويرفع رايته في المهرجانات الدولية، ويفوز بالجوائز. ولعلّ ما ساهم في ترويج هذه الصورة النمطية عن المخرج هو سيطرة شركة إنتاجه، “عليان”، على جزء كبير من سوق الدراما في التلفزيون المغربي. على التلفزيون، يخلع عيوش قبعة المخرج ويحمل حقيبة المنتج. شركة “عليان” أنتجت عشرات المسلسلات والسيتكومات والأفلام التلفزيونية، ونفخت الحساب البنكي لصاحبها، دون أن تترك أثرا فنيا يذكر. بخلاف الأفلام السينمائية التي استقرت في ذاكرة الجمهور، من “مكتوب” إلى “علّي صوتك” مرورا ب”علي زاوا” و”يا خيل الله” و”الزين اللي فيك”… وصولا الى ” الكل يحب تودا”، التي تمنح لـ”فن العيطة” اشعاعا دوليا، وتأشيرة عبور إلى العالمية.