Banniére SIAM

حياة الماعز: لا توجد معزة واحدة ولا حياة واحدة ؟

0

تابعنا الفيلم الهندي “حياة الماعز” كمن يبحث عن نفسه بالخوف والحزن من”الشرق الثائر” لهنري كيسنجر، وتناسينا ان بوادر اي حياة تكمن في اولى مراحلها داخل الفرد ثم تنتقل بالتالي كصناعة بشرية خالية من الاحاسيس او العكس، لتفيض فيضا على جميع مناحي الحياة باي مجتمع انساني اخترته لامتحان مناخ الحريات لدى شعوبه وحكامه.

في هذه المقالة اريد اولا وكما يتملكني دائما ذلك الشعور بقدرة السينما على الفعل والفضح والكشف، ان استمر موقنا بقدرة الفنون على تحرير الشعوب من الخوف من نفسها اولا قبل الغير وهو مهم واساسي ، لذلك كنت مدافعا عن حرية التعبير وحرية الشعوب في الانتصار لقضاياها عبر الفن لانه سيف ذو حدين :

1- سواء عليك اعطاء شعب حريته ليبدع ويتنفس وينشا لديه فهم عام لذاته وللغيرية في اطار الانسانية الكلية ،(نظرية الحق ) وهو مفيد وجيد.

2- او الاغلاق و الحرمان وبالتالي تدويل الحق واعطاء “الغير” فرصة الترافع بالوكالة عن من يصبحون مقهوري البلدان الاخرى ومستضعفو الامم بنظر القانون الدولي والمنظمات الحقوقية, وهنا لا يليق ببلدان ذات سيادة ان يسقطها سيف الحق عن اي حق “امل ذنقل” , خذ السينما وخذ هذا العمل”حياة الماعز ” الذي غير تمثلات ملايين الشعوب دفعة واحدة عن فكرة “الشرق” ؟ وعن فكرة بلد يريد اعطاء صورة مخالفة عن ماض بعيد من “الاورتودوكسية القاسية” التعامل مع حقوق الإنسان، والسؤال هو : كم وبكم يمكن محو هذا الاثر عن جبهة كيان دولتي يريد لنفسه مكانة تعوزه فيها حقوق الانسان داخليا للمهاجرين والمحليين ؟

من اجل هذا وذاك ، يعيد فينا هذا العمل الفني دعوة تحرير الشعوب وتركها تجرب الفنون ( المسرح، الشعر، التراجيديا، الدراما، الموسيقى، فنون العرض كاملة وادوات الابداع الاولية حتى تشبع الشعوب وتمتليء بالهوية والثقافة وتتخلص من فكرة (الطابو) لانها مؤجلة فقط وليس منتهية بالاساس عن طاولة الاعتراف والتفاوض والحق ، بمعنى ان اي مجتمع او شعب لا يمتلك القدرة على حرية التعبير ،فانه لن يستطيع بالتالي انتاج ذاته وخلق صور لنقد واقعه ،فتضيع فرصة لملمة قضاياه او التفاوض من شانها داخليا وحلها، بالمقابل تعطى الامكانية “للغير ” للكشف والفضح وخلخلة المسكوت عنه ونشره، ليصبح قضية “راي عام دولي” تتجاوز المحلي الى المجتمع الشبكي الذي يصير فيه العالم باسره مدافعا عن عدالة قضية بالوكالة تبنتها السينما في مناخ اخر وبلد اخر له سيادة …انما تحول بسرعة كما يحدث في الاماكن المنكوبة بالكوارث الى جو للترافع والهدم والنبش في التوابث تحت تفاسير معينة !!

اما بالنسبة لحياة الماعز او اي حياة لا تستجيب لمقتضيات “القوانين الدولية” على مستوى الحريات … وحرية الافراد في اتخاذ القرار وما تمليه المصلحة الوطنية لاي شعب تتاسس اولى بوادر نهضته على …(حرية التعبير والتجوال والتملك والحق في المعلومة والمحاكمة العادلة والوصول الى الخيرات، والحقوق الاقتصادية والبيئية، والحقوق الصحية والتربوية، وحقوق السكن والحق في حياة كريمة). فإننا في عالم اليوم نمنح الاخر فرصة وضعنا على مشرحة التفسير لقضايانا من وجهة نظرة واحدية “جاك دريدا”، وفق ما حملته الصورة القاتمة عن حقوق الغير ( الادميين) هناك بدولة العربية السعودية ،التي ينظر اليها ملايير المؤمنين والمسلمين كونها راعي الأماكن المقدسة و وحدة الامة على مستوى الدين ( الاسلام)، الا ان تعاليق “المجتمع الشبكي ” لا يسقط حقا لاحد مهما بلغ من هذه الوجاهة الروحية، ولم يعف هذه الدولة اليوم من النقاش “الحاد الباطش” ضد “هيئة الترفيه” المحدثة مؤخرا في العهد الدولتي الجديد ،الذي اراده ولي عهد المملكة ان يتجه نحو اقامة (دولة عصرية)… بينما نسي هذا الاخير؛ ان تغيير الجو السياسي والاجتماعي المركب من خليط هام من بقايا المجتمع البدوي المتدين، الخاضع لبنيات وتوابث ماقبل مفهوم القبيلة او العشيرة.. الذي يؤمن بجوهر ( استعباد ) الفرد لاخيه في مرحلة هي هناك على ما يبدو بعيدة عن مفهوم ( الأنسنة ) الغربي الذي ولد الأنوار قرابة 700 سنة من هذه اللحظة، وانه كان بفرنسا وقبلها انجلترا وقبلهما ايطاليا تأسيسا صعب التوليد لدى” هيئة الترفيه” مهما بلغ فتح المدن السعودية، لمغني الشرق الذين هم انفسهم يعيشون ببلدان ترعى جزءا مهما من ثقافتها :بفكرة القطيع الواسع من المعيز بغير القدرة على الثغاء والبغام ولا حتى الفحيح…!

بينما كان على” هيئة الترفيه” والعصر الجديد اذا ارادت بناء دولة جديدة ان تفكر مليا في خلاص الامة من اثار الماضي، بتوفير مناخ للحريات والحقوق، واعتقد ان هذا المسار وحده يحتاج الى ارادة بالاذهان؟ والحاجة الى أكاديميين ودارسين وارادة سياسية تعيد تعريف الدولة الشرقية قي بلد يعظم فيه المسلمون التشييد الاول للهوية العربية الاسلامية النابعة من هناك ،الذي اراد له الفاعلون السياسيون نموذجا عصريا بدون التفكير في حجم العملية الدقيقة المتطلبة، التي لا بد لها من ان تنتصر لطقس العبور …الا وهو ( الانوار ) : اي ،تجديد الشرق ولغة الشرق وتراث الشرق واجتهاد بالشرق وحريات بالشرق، اما الترفيه على صيحة فيلم “اولاد عز “، فاعتقد انه لم يجد لدى الراي العام فرصة استيعاب… ان الترفيه كما عند (مؤسسي الترفيه) قد بلغ مداه وكفى المؤمنين شر القتال.

سنتفق بالجوهر ان ما حملته عدسات الفيلم المنصوبة في كل زاوية من اطار الفيلم، وان كل تنهيدة، وكل نظرة بالعين لبطل الفيلم ولماعزه وابله لحظات نشوء فكرة الهرب عنده …وان كل ذلك الانين والأدى الذي لحق بطل الفيلم وهو يقطع الصحراء، يذكرنا بالشفقة من وضع كنا بالف حيلة ان نعيشه، ويذكرنا بمفهوم ” التطهير الاولى” في الفن عند ارسطو، ويحملنا الى مسرح فولتير وشكسبير والى كل العوالم التي تجمع الناس مرة واحدة عندما يتعلق الأمر بالالم والشفقة الذي نخافه جميعا، بحكم تجربة الخوف الاولى كما شرحها الفيلسوف الفرنسي (رايمون ارون) .

اقول ان كل تلك المشاهد من الهروب والعناء والحشيش الأخير لغنم الهارب، و الافريقي الذي تفتقت عبقرية المخرج ليتخذ منه خيطا للامل يمنع عن البطل” انحدار الرغبة ” ،كل هذه يرتب فينا ان خوفنا ابدي وجوهري (كوني وعام ) كبشر ننتمي الى اماكن متعددة من هذا الوجود ويوحدنا الفرح والخوف، لكنه بالنهاية لا ينفي ان اماكن الاحتجاز منتشرة في كل مكان، وان حياة الماعز تلك المنتصبة بمواقع قاتمة بالشرق يوجد مقابل لها في كل زقاق وعند كل زاوية بالغرب والشمال والجنوب، وفي نفس الزقاق والبيت والقرية… وتوجد اكثرها تجليا في الإنسان نفسه المدثر بادعاء “الانفتاح والقبول بالغير”! ، بينما بإمكانه ان يكون هو نفسه حاجزا ومانعا ومتحكما في من يدورون في محيطه من غير ان يشعر او يكاد يبين لتلك القسوة الكامنة في روحه .

اؤمن ان حياة الماعز هي محاولة سينمائية” واعية” اشتغل عليها مخرج الفيلم خمس سنوات بما تطلبه الفيلم من الامكانيات ( المادية والرمزية )، لكن اؤمن ان المخرج كان يمتلك قراءة مسبقة بكون هذا الفيلم سيسبب ضررا لجهات كثيرة “دول الشرق ” ، وان الفيلم سيخرج من الناس الذين عاشوا حياة للماعز بكل زاوية ليرووا عن تجاربهم “الماعزية” مع اختلاف طبيعة المشاهد والاماكن و الظروف والتاريخ …فقد يكون احتجاز : بنات و اطفال واسر وامم وشعوب ودول وما شاء الله من طرفي القصة : ماعز وحياة ، لا تخفي اوجاعها مهما انفقت فيها من الاموال والاستشارات و التضليل ،و استثمار الطابوهات بروح متنكرة للطابو مطبعة معه.. بينما نحن نعلم ان الطابوهات قلبت الكثير من الامم وغيرت العالم. فالمسكوت عنه : اما يحتاج معالجة تصرخ من الداخل بكل اصواتها، او نسكت عنه الى حين يصرخ فينا غيرنا باصواتهم وتلك قضية اخرى…

 

صبري يوسف : كاتب راي وباحث في علم الاجتماع التنمية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.