كلمة الأديب العظيم نجيب محفوظ..بحفل نوبل
سيداتي سادتي.. في البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها على التفاتها الكريم لاجتهادي المثابر الطويل، وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثي إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هي الفائز الحقيقي بالجائزة، فمن الواجب أن تسبّح أنغامها في واحتكم الحضارية لأول مرة.. وإني كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومي بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة في دنيانا المليئة بالشجن”.
سادتي..
أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأن لحظة إعلان اسمي مقرونا بالجائزة سادها الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون، فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً، أولهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهي الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهي الحضارة الإسلامية، ولعلّي لستُ في حاجة إلى التعريف بأي من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف.
وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات، فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التي لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله، ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى، وكشفها عن فجر الضمير البشري، فلذلك مجال طويل، فضلاً عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبي إخناتون، بل لن أتحدث عن إنجازاتها في الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك، فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها..
دعوني أقدمها – الحضارة الفرعونية – بما يشبه القصة ما دامت الظروف الخاصة بي قضت بأن أكون قصّاصاً، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة..
تقول أوراق البردي إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يُجهِز على الجميع، فلا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه، ولكنه دعا إلى حضرته نُخبة من رجال القانون، وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل..
ذلك السلوك في رأيي أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أي أبهة أو ثراء، وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبراً من أخبار الماضي، وسوف تتلاشى الأهرامات ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان ما دام في البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.
وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرّمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا.
ولا عن المؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكني سأقدمها في موقف درامي- مؤثر- يلخص سمة من أبرز سماتها، ففي إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردّت الأسرى في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد، وهي شهادة قيمة للروح الإنسانية في طموحها إلى العلم والمعرفة، رغم أن الطالب يعتنق ديناً سماوياً والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.
قُدِّر لي يا سادة أن أُولد في حضن هاتين الحضارتين، وأن أرضع لبنيهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما، ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة، ومن وحي ذلك كله، بالإضافة إلى شجوني الخاصة، ندّت عني كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى، فالشكر أقدمه لها باسمي وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسي الحضارتين.
سادتي..
لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟ وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون، حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها.. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات، ويهلك آخرون في إفريقيا من المجاعة، وهناك في جنوب إفريقيا ملايين المواطنين قُضي عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر.
وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، هبّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يُعترف لهم به، فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة – رجالاً ونساءً وشباباً وأطفالاً – تكسيراً للعظام وقتلاً بالرصاص وهدماً للمنازل وتعذيباً في السجون والمعتقلات، ومن حولهم مائة وخمسون مليوناً من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل.
أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصاً؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف، وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره.
وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يُعقل ولا يُقبل أن تتلاشى أنّات البشر في الفراغ.. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد، وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب.
وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعي، فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي، فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار في دول الحضارة، كما نطالب رجال اقتصادها، بوثبة حقيقية تضعهم في بؤرة العصر.. قديماً كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها، معتبراً بقية الأمم خصوماً أو مواقع للاستغلال.
دونما أي اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتي، وفي سبيل ذلك أُهدِرَت أخلاق ومبادئ وقيم، وبرزت وسائل غير لائقة، وأُزهِقَت أرواح لا تحصى، فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة ودلائل العظمة.. اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها.. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بمسئولية نحو البشرية جميعاً.. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة.
ولعلي لا أتجاوز واجبي إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا، ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم.. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان، فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضِقنا بالكلام وآن أوان العمل.. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين.. نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية.. أنقذوا المستبعدين في الجنوب الإفريقي.. أنقذوا الجائعين في إفريقيا.. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحي العظيم.. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة.. والفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تُقدّم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه.
سادتي..
معذرة.. أشعر بأني كدرت شيئاً من صفوكم، ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث.. أليس أن كل إناء بما فيه ينضح؟
ثم أين تجد أنّات البشر مكاناً تتردد فيه إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلباً للمغفرة فنحن – أبناء العالم الثالث – نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته.
سادتي..
رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية.. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر في العالم الآخر، فإنه يحرز نصراً كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير، وأمامنا الدليل الذي لا يُجحد، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يَسُرّه، وقد صدق شاعرنا أبوالعلاء عندما قال: “إن حُزناً ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد”.
سادتي.. أكرر الشكر وأسألكم العفو.