المغرب الممكن يحتاج الى اولاده.

0

اعتقد انه غير ممكن ان نفكر في مغرب اليوم والغد من خلال مقاربة وحيدة، “تقنية “، لتفسير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتعلقة بحياة المواطن والسكان عموما. فكما في العلم هناك اكثر من اطار نظري لتفسير القضايا ..بالمقابل هناك اكثر من شكل لشرح الازمات التي تتعلق بالتحولات والديناميات الاجتماعية في هذا البلد .

وهنا اعود الى علم الاجتماع باعتباره علما قائما يفرض نفسه في كل صغيرة وكبيرة من القضايا اليومية للناس ، خد على سبيل المثال موضوعات : الهجرة والهجرة الدولية ، التحولات الاجتماعية، الحركات الاحتجاجية في الفضاء العام، قضايا النوع ، الانحراف ، الشباب. وبالتالي فإننا لا يمكن اليوم ان نفهم الواقع الذي نعيشه خارج هذا العلم المزعج الذي يفسد على الاخرين تنكرهم ( بيير بورديو)، وفي هذا السياق من التحليل فان الاخرون هم الفاعلون في كل المجالات : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والفلاحية والرياضية والتنموية بالنتيجة .

نتابع بكل اسف ما حدث يوم الخامس عشر من الشهر الجاري، وما اطلق عليه اعلاميا وعلى اكثر من منصة عبارة : الهروب الكبير ؟

وتابعنا كذلك عشرات المنصات لفهم ماذا جرى؟ ولماذا يحدث ذلك؟ ومن الفاعل؟ ومن والمستفيد من كل ذلك ؟ وماهي دوافع تجربة الهروب الكبير؟

 

كنت الى غاية اللحظة اطمح في ان تستغل المحطات الاخبارية، والاعلام الحر والمستقل والمواقع الاخبارية للقطب العمومي، منح علماء الاجتماع المغاربة في تخصصات الهجرة ما اسلفت ذكره لفهم وتفسير ماذا يجرى ! الا انه لغاية اليوم نتلقى اخبارا من هنا وهناك دون القدرة على وضعنا في الصورة كمواطنين بهذا البلد ، وعندما لا نملك الوسائل الكافية للاحاطة بظواهر معاصرة فاننا لن نتمكن من التحكم فيها وايجاد الحلول ، في مقابل ذلك دعونا نحاول قراءة ما جرى على ضوء المعطيات والتقنيات التي توفرها مفاهيم من قبيل : الهجرة، الفنيدق، سبتة المحتلة، بغيت نحرك، بغيت نموت، الهروب الكبير ، المغاربة يهربون من بلدهم ….الخ .

فيكون في الانطلاقة سؤالنا الاشكالي هو : لماذا فجأة تدفق على مدن الشمال ذلك العدد من الشباب مطالبين بالهجرة الجماعية امام انظار السلطات المغربية والعالم ؟

ـ لماذا يحدث هذا اليوم بتلك الكتافة ؟

ـ لماذا توزعت الاعمار اغلبها بين سنوات 9 الى منتصف الاربعينات تقريبا؟

ـ لمصلحة من سيحاول كل هؤلاء القادمين من مختلف القرى والمدن والجهات تحمل عناء الرحلة نحو الفنيدق لعبوره بكل ما في القلب من رغبة؟

ـ هل هذه الافعال افعال واعية نابعة من ادراك تام لمسألة الهجرة ام الامر لا يعدو كونه “عدوى انفعالات” حصلت داخل” فضاءات افتراضية” سرعان ما وجدت لها صدى واتباع موالين وأعلنت عن نفسها ؟ وهنا نعود الى “سيكولوجية الجماهير ” لفهم المزيد عن ما يتشكل في عقل الجمهور ساعة تحقق شروط اعتقد ان ( كوستاف لوبون) شرحها بتفصيل . نحن هنا نطرح الاسئلة وما يزال امامنا الوقت للتحقق من امكانية ذلك عمليا.

في هذه المنهجية يمكننا استخراج اكثر من فرضية، ومن تخمين، حول الاسباب والعلل التي تحرك الانسان، وتحرك الظواهر الاجتماعية او الفيزيائية على السواء بنفس النظام ، لنطرح جانبا عواطفنا ونتخيل جميعا فرضيات يمكن ان نشيد حولها تمثلنا لدوافع الهروب الكبير هذا فنقول :

– قد يكون فقر المغاربة وعدم قدرتهم على مواجهة المتطلبات المتعلقة بالمعيش اليومي، وبمتطلبات الصحة والدواء ومتطلبات المدرسة ومتطلبات الاكل والشرب والغاز والسكر والزبت، ومتطلبات الرفاهية والوصول الى استهلاك الخيرات : السمك، اللحم، الرغبات، الامتاع، انتاج الفرح ….الخ.

ـ قد يكون بفعل فاعل داخلي او خارجي اراد لهذا البلد ان يعيش حالة فوضى، او هناك يد ما تريد ان تقول للمغاربة انه بامكاننا ان نجعلكم تشعرون ببعض عدم الاستقرار ولو بلحظات لفترات ممكنة .

ـ كما قد يكون ما حصل ناتج عن عدم رضا الشباب عن حاضره ومستقبل “رمادي” في غياب فرص الشغل الكافية لعيش كريم، وغياب الثقة في المستقبل والذات والمؤسسات ، وغياب المساواة في الولوج الى الشغل اذا وجد… وغياب الاستحقاق مقابل حضور اللامساواة والتفاوتات الاجتماعية الواسعة، و بروز فوارق في التوزيع الغير العادل للحظ بين الشباب، مما بات يرى بقاءه هنا شبه مستحيل يحيل على الموت واللا يقين.

ـ كما هناك طبعا فرضيات من قبيل غياب الحرية، وانتشار الزبونية والمحسوبية والرشوة، وتفشي ظواهر البيروقراطية في الادارة والمرفق العام ، وغياب التماسك الاجتماعي كاحساس عند هؤلاء الشباب داخل محيطهم واسرهم، وانتشار المقاربات المفضية الى قمع كيان جيل من الشباب الذي صار يشعر بغياب فرصة انخراطه في مشاريع الابتكار والخلق، واحساسه بوضع “الغريب” l’ étranger .

ـ غياب فلسفة سياسية تاخذ من القوي نحو الضغيف، وغياب قدرة على التنبؤ بالمستقبل، وغياب الفاعلية السياسية على مسرح الاحداث، وتشظي ادوار السياسيين وصورتهم الرمزية، و”موت السياسة” و ضعف التكوين السياسي, وارتهان هذا المجال بيد نخبة وفئة تتمتع بما تجنيه من المكانة بحيث صار العمل بالسياسة وراثيا لم يتنح ولم يلد غير زبناء وابناء هؤلاء الفاعلين الاصليين وورثتهم les heritiers (بورديو) . وبالتالي انحسار ادوار مؤسسات الوساطة، وموت المجتمع المدني, وكفاف دور الشباب ودور الرعاية من اجل تجاوز كل العقبات في طريق مجتمع منسجم مع دعوات ( الدستور الجديد, القانون. المرجعيات, الانتقال، المفهوم الجديد للسلطة وغيره) .

بعد هذا التمرين العلمي البسيط لفهم الحقائق بشكل موضوعي بعيدا عن “الوشائج والعواطف العابرة على الافراد والمجتمع في ما يربطها بالارض والعائلة والمشترك “، وانما نحاول فهم ما جرى بشكل تجريدي عار من كل ما قد يدسه اي منا كشكل للمقاومة او الانتهازية او الانتصار لتيار فقط لانه لا تمسه هذه الاوضاع من قريب او بعيد… فهو في غنى عن انعكاساتها . وبالتالي و بعد كل الذي تطرقنا اليه نتوجه صوب ما لاحظناه، وما تتبعناه من حديث الهاربين بالنهار من وطنهم الى وسائل الاعلام المغربية على ضفاف المتوسط هناك بالفنيدق، وما شاهدناه من الهروب الجماعي، وما سيتبعه بحثنا من اجل تفسير وجيه لواقع وضعناه على منهج علمي بصرف النظر عن اي “حكم قيمة ” او “قراءة عمومية” غير شافية، وكذلك امعاننا عن ما تقتضيه الاسننتاجات العلمية التي تتجه صوب دراسة الوثائق والسجلات والارقام والمعطيات الاحصائية التي تنتجها مختلف المؤسسات ودراسة المؤشرات، ودراسة تاريخ هذا البلد على الاقل لما بعد” التناوب التوافقي” وتتبع ازمات المغرب السياسية وانفراجاتها الموضوعية الواعدة منذ ما بعد الاستقلال و لحظات صعود ونزول: (65.62 72.71.82.84. 99. 2002.2003. احداث اكديم ايزيك. سيدي افني. حراك الريف. 2011 …الخ) مع انه ممكن في كنف دولة تتطور انما نستنتج :ان هناك دائما ما سيطر شعور “ضبابي ممزوج بعدم اليقين” فيما بين الحنين الى “تقليدانية اورتودوكسية” في الجوهر, والتردد في المساهمة الفعلية في بناء مغرب حداثي متنور لا يرتد نحو التراجع عن الاستحقاق، وبالتالي العودة كلما تقدمنا خطوة الى الامام منها الى تدبير نحو “لبريكولاج السياسي والانغلاق” .( جون وتر بوري)

وهنا السؤال المفصلي: لماذا لم يتمتع الحقل السياسي بحركية واسعة لمفاهيمه كما هو متعارف عليه في كل الديمقراطيات، ولا يعني اكثر من قوة تلك المؤسسات السياسية التي يجدر بها ان تتمتع بالمرونة والتغير من قبيل : ( اقاالبرلمانلة الوزراء. استقالة الوزير. اسقاط الحكومة .حل ….) حتى نستطيع فعليا الحديث عن ممارسة للسياسة كما يجب.

بل كشف كل هذا بوضعه تحت مجهر التحليل “الكمي والكيفي” بان الذين خرجوا من ديارهم كانوا فقط يشرحون وضعا غير” صريح” بخصوص عيش المغاربة، نومهم ,صحتهم وسكنهم وحياتهم التي لم يعد يسري عليها مفهوم الطبقات الاجتماعية …بل هناك قاع واسع من المطحونين ونخبة سياسية تعمل لصالحها ومصالحها، فتقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وتقارير دولية كثيرة، وتقارير المندوبية السامية للتخطيط كلها كانت غالبا ما تضعنا في مناسبات عدة في الصفوف الاخيرة مع دول متخلفة فيما يخص الشفافية والنزاهة ، التعليم والصحة، مؤشرات الشغل والبطالة ، معدلات النمو الاقتصادي والفساد ، جاذبية حقل السياسة الثقة في الفاعل العمومي، غياب تفعيل الحكامة التي بقيت فيها الفكرة الرسمية حول هذا المفهوم ميتة فيما يتعلق “بربط المسؤولية بالمحاسبة” كونها المدخل الحقيقي للثقة بين مختلف الفاعلين و ضمان جودة المؤسسات .

في النهاية عند مقابلة سؤالنا الاشكالي بفرضياتنا وبما يجري في الميدان يظهر ان الشباب الذي يغادر نحو المجهول وارقام الهجرة والمهاجرين، او هجرة الادمغة والاطر او طالبي اللجو او غيرها من المعطيات التي علينا ان ننظر اليها بعين فاحصة قادرة على الاعتراف بالاخطاء وهو ممكن، فهو بداية ايجاد اجوبة فعلية وفاعلة لما يمكنه ان يجنبنا كوارث نحن في غنى عنها لا قدر الله .

عام 2011 تجاوز المغرب محنة لم تكن كمحن الاخرين بالجوار ( تونس وليبيا) ، والتاريخ المحلي يقول ان المغاربة كثيرا ما كانوا يحمدون الله على امان هذا الوطن وعلى امنه، لكن كل هذا له ثمن وتضحيات وصبر ونبل المغاربة مهما عاقبت به الشروط التي يصنعها الفاعل السياسي بتاريخ المغرب، الذي كان تقرير الخمسينية اكثر صراحة في وصفه؛ مؤكدا انها” اربعون سنة من صراع طرفي السلطة قي المغرب” غيب جهودا كان بمكن ان تجعل من المغاربة في الصف الاول تنمويا، حياة ووجاهة، الا اننا والمؤسف جدا هو ان ننتظر كل مرة تنزيل رغبة للاصلاح على الارض سرعان ما تصطدم بالعوائق والمشكلات، وهنا يقول اساتذة علم الاجتماع ان المغرب كل عشر سنوات عليه ان يعيش ازمة يتجاوزها بدون حلول منطقية وجدرية، واقدر ان الاجيال الحالية هم شباب ينتمي الى ازمات يتحكم فيها” الافتراضي والواقعي” معا ،وان الدول المتقدمة تولي اليوم اهمية كبرى في دراسة :التحولات الاجتماعية ،والشباب والهجرة والنوع اهمية كبرى، لان انسان البارح ليس هو نفسه انسان المستقبل في “الاحاسيس والرغبات والمعتقدات والامكانيات والتاويلات وشرح المشكلات وطبيعة التفكير في حلول للازمات” . اؤمن ان كتابات ” التوسير” حول:” ادوات الدولة الايديولوجية” قد اكل عليها الزمن وشرب، وبالتالي علينا اليقين اننا امام بشر وشباب وارواح تتمسك بعدوى الانفعالات بسرعة ، فهي تطبخ على عوالم افتراضية بعيدة عن المراقبة ( فوكو) ، “وان مجرد خلق فضاءات للتنفيس بدون ان يشعر الشاب بالثقة بنفسه، واحترام ذاته ،هو فقط فرصة لكرة الثلج التي تكبر وراء التل وتتدحرج.

لا يلام الفرد بالنهاية في تحديد معايير للسلوك الخاصةبه، ولا ينتج الثقافة ولا التعليم الذي يريده فكلها ليست وظيفته، بل وظيفة الدولة بحكم احتكارها المادي والرمزي للحياة العامة سواء من خلال امتلاك “حق العنف المشروع” او ” توسيع اختيارات الناس”، خصوصا اذا اختارت الدولة نفسها لتكون ديمقراطية وهو خيار لا رجعة فيه واعطت لنفسها صفة “الدولة الاجتماعية “فمدلول الاجتماعي اوسع من اي دال دولتي اخر (رولان بارت) …انها وظيفة المربي والحامي والمداوي والمدرس والسكن والماسح الدموع. انطلاقا من تعريفات بيسمارك الاولية حول المفهوم ذاته ( الدولة الاجتماعية 1870), ومن رؤية الفيلسوف الالماني هيكل Hegal في الدولة باعتبارها: مربية المربين مهما كان لكل مربي مربي.

 

صبري يوسف كاتب راي وباحث في علم اجتماع التنمية.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.