لماذا كل هذا الظلم يا بشار؟
اراد بشار الاسد ربما ان يحكم سوريا الى مغيب الشمس من يوم الثامن ديسمبر من العام 2024 ،انما كان لفلق الصبح ارادة مضادة ، فر هاربا او بالاحرى “طار الاسد” ، و على منصات التواصل الاجتماعي سخرت امراة سورية من فعلته متسائلة :كيف بملك الغابة ان يطير ! وبنفس النكتة ظهر راع بريف حلب وهو يستنكر “تبكير ” الرئيس للهروب، كان يود ان يصدق فراره وقد طلع النهار… فرصة للراعي ليتشفى بالسقوط المدوي لزعيم بلده تاركا خلف وطنا كله ينزف .
عذرا السيد الفيلسوف ” نيتشه “لا يوجد” ميلاد للتراجيديا” عندك، بل هناك بالفعل والقول ،بالتنفيذ المادي والرمزي لميلاد عاشه الشعب السوري العظيم مع الاسد، ولم يكن العالم يستطيع سماع من بداخل (خزان )” غسان كنفاني” وهم في وجع والم، ولا يمكن تخيل هذا الحجم من الجنون البشري في قتل شعب يملك تاريخا وماضيا وحاضرا كبيرين بالرغم من كل الظروف وأصناف العذاب ، بالتالي :كيف نتخيل انه لا يزال بالعالم العربي بعد العام 2011 دولة يمكن ان تعامل مواطنيها بهذا القبح المنقطع الشبيه ؟ لماذا كل هذا الظلم يا بشار ؟
دعونا نتقدم في رسم معالم مقالنا بعيدا عن” الفلسفة السياسية” برمتها، بعيدا عن “افلاطون” نفسه و اراء ميكيافيلي” الإصلاحية” ، وعن” تعفن الدولة “عند رائد المقالة الحديثة “ميشيل دي مونتين” … وكل ما يمكن الحديث بصدده هنا حول” نبؤة” العقد الاجتماعي 1762″ و مفهوم “الديمقراطية التشاركية المباشرة ( الغير التمثيلية) التي دافع عنها “روسو” …مرورا بمجمل الافكار عند ابرز منظري” الديمقراطية الحديثة” ،ونصوص “اليكسي دي توكفيل” حول” النموذج الديمقراطي الأمريكي” وكتابات “بول ريكور ” في من يحكم ومن يراقب من يحكم وايهما اهم ؟ و المدرسة النقدية لفرانكفورت ( هوركهايمر وادرنو)، و الكتابات العظيمة السابقة لزمنها مع ( فوكو) في السلطة وافكار كثيرة لا نريد ان نخوض فيها هنا والان ، بل نقوم اليوم فقط بوصف حال بلد شدتنا اليه اوضاعه لحظة افراغه من الداخل… من مضمون ما كان ادعاءا يسمى” مؤسسات “, وتكشف لدينا دليل” السلطة السورية” عاريا ، قبيحا، متوحشا، مظلما ذكرنا بمشاهد “الايام الكبرى للقرن العشرين 1914 و 1945″ على شاشة التلفزة ، ونحن الذين صدقنا انفسنا باننا في هذا المحيط العربي على الاقل تكاد بعض الاقطار تحاول التغلب على اوضاعها بامتلاك الشجاعة للقول :” انظروا، اننا هنا ونعلنها للعالم صراحة، بكوننا مع شعوبنا في الشدة والرخاء، واننا ماضون الى الامام بما يناسب العصر الجديد و القرن الجديد بلا دم ولا سوء استعمال للسلطة”, و مع كل الذي يحدث وقد يقع مثله في بقاع اخرى ، اؤمن انه سيكون القرن الحالي، قرنا لحقوق الانسان بامتياز ، وليس غير هذه الحقوق كاملة بدون” اجزاء”, والا سيحكم على المخالفين بعدم الانتماء الى الحاضرة الدولية التي لا تقبل اكثر من سلطتين :
*سلطة عصر التواصل الاجتماعي الرقمي بامتياز: ضاغطة ،فاعلة مؤثرة ،موجهة للسياسات وللفاعلين.
*وعصر لتفعيل الحريات ( العهد الدولي ـ الاعلان العالمي وكل الاتفاقيات و البروتوكولات الكونية والاقليمية ) .
طار الاسد الى روسيا هاربا من أفعاله، فيما طلع النهار على جرائم فضيعة ، ذكرتني بشخصية في فيلمين كبيرين، لا باس من ربط هذا بذاك لمعرفة انه كما بالواقع بالفن، حيث لا محدودية للشر البشري و هنا طبعا يحضرني :
– فيلم ستسيل الدماء ( There Will Be Blood) أنتج في العام 2007، من بطولة “دانيال دي لويس ” , قصة عن العائلة والدين والبغض والنفط والجنون، تركز على الأيام الأولى للتنقيب عن النفط في مطلع القرن العشرين من خلال (دانيال بلاينفيو) رجل اﻷعمال الذي ينتهز فرصة كبرى ستغير مجرى حياته ، اعتماد المخرج على التجريد ومزجه بين الواقعية والرمزية، عبر صراع بين شريرين: الرأسمالي الجشع دانيال بلينفيو (دانيال داي لويس)، والواعظ الفاسد إيلي صنداي (بول دانو)، يثبت أنهما وجهان لعملة واحدة ويكشف عن القبح الكبير الذي تخفيه خطابات الرجلين كل من موقعه. الفيلم الثاني لنفس الممثل عن عصابات نيويورك ( Gangs of New York)، وهو فيلم عن رواية تاريخية أنتج في 2002. أخرجه الأمريكي “مارتن سكورسيزي” والفيلم من بطولة” ليوناردو دي كابريو ودانييل دي لويس، تدور أحداث الفيلم في مدينة نيويورك القديمة في عام 1861 خلال فترة الحرب الأهلية الأمريكية من خلال قصة شاب إيرلندي اسمه أمستردام فالون (ليوناردو دي كابريو) ، يسعى للثأر من قاتل أبيه” الواسبي بيل ذا بوتشر كاتينغ” (دانييل دي لويس) في حرب دارت بين السكان الأصليين (الذين ولدوا في أمريكا) والإيرلنديين في مدينة نيويورك القديمة…الفيلمان يظهران شخصية البطل “دانييل دي لويس ” في كل حالاته رجلا قمة في الشر غارقا وسط الدماء والمكيدة, ومجردا من قلب انسان وعاطفة وكرامة .
هي نفس ملامح هذا الحاكم الذي اختار لشعب عريق حال من وضعين :
1- اما جنون : جنون الرجال والنساء والاطفال والنخب والافراد والجماعات وفي اي مكان كانوا من جغرافية سوريا.
2ـ او موت واختفاء وغياب بلا اثر ولا اشارة ولا معالم.
فقد انتظر هذا الطاغية 14 سنة حتى يسقط، دبح فيها ونحر كل فرصة لبناء بلد مزدهر، وعندما نتحدث عن سوريا علينا استحضار ما تتوفر عليه من الثروات ، ومن الرأسمال البشري ، والتاريخ والوعي الثقافي والتنوع . كل هذا دمره الاسد بذم بارد وترك قلاع سوريا واديرتها واريافها فراغ وبراميل حروب وخردة هنا وهناك. سؤالي بعد كل الذي نتابعه : هل كان هذا الطاغية سليما معافى في عقله؟ وهل كان بالفعل يستطيع ان يحكم ؟ سيتبين انه كان مغيبا غير قادر، فارغ من الشعور والاحساس وضعيف واهن .
كان” بول ريكور” احد الفلاسفة الكبار و من جملة اهتماماته هو: متى تكون الموضوعات “علمية “ومتى لا تكون سوى ” احكاما عامة” ! فيما يخص مسالة السلطة هي الاخرى ,فقد كانت له كتابات نقدية في موضوعها، ولأنه عاش ويلات الحربين العالميتين، سمى نفسه وقافلة من نخبة اوروبا ومفكريها بجيل الخندق génération de tranchée ، كتب ان الحكم ليس العيب فيه ان يكون اوليغارشيا، رئاسيا، دكتاتوريا ،ملكيا، مدنيا، بروليتاريا ، شعبيا ، جماهيريا او ماشئت من اشكال السلطة، انما ان يكون الحكم مراقبا ! كانه يحيلنا على طبيعة المؤسسات الغربية اليوم في كنف اي سلطة هناك داخل الفضاء الاوروبي السابق بالتجارب الفكرية والممارسات و بالازمات كذلك ، بالتالي من كان يستطيع مراقبة حكم الاسد في غياب “مؤسسات للحكامة” واسلوب” ديمقراطية تشاركية” تصل فيها مشاريع الجهاز الحكومي وقراراته الى المواطن الموجود على راس الجبل وتحت الارض و بالكهوف .
هنا لا يمكن الحديث عن” تخليق ” وما شابه بسوريا او غيرها بالمحيط ، لانها بالفعل لا تتماشى والرؤية العامة لادارة البلاد مهما كانت الدولة عادلة ودولة رفاه، فتخليق الحياة مفهوم حفري ووحده (ميشيل فوكو) ومن خلال دروسه” بالكوليج دي فرانس” في” موضوع “ميلاد البيو- بوليتيك “، شرح بالتفصيل ان اجتماع شهر ابريل عام 1948″ للمجلس العلمي الالماني” هو بداية التنزيل للدولة “النيوـ ليبرالية” بالمانيا ،وهي لحظة فاصلة من خلال كل محاضرات فوكو عن ادوار الدولة الجديدة، وعن الاقتصاد ،وعن ميلاد شفاف وواضح لمعنى” الفرد والسلطة والحق”. نحن اذن عمليا بصدد لجان علمية تقرا مستقبل قارة بعد نتائج حربين كبيرين، وما بعد التقسيم لالمانيا ، ونهاية بحكومة “فيشي” بفرنسا، واختيار الاوروبيين اخيرا ليكون الاقتصاد محددا للحريات بصفة عامة بلا رجعة .
اذن محيط بشار الاسد الاقليمي ليس بهذه الكتافة ولا النتائج ولا الرؤية ولا اي داع يمكن ان يجعل من الرجل بالفعل اسدا ، وليس بهذه الصورة وليس الامران سيان نظريا ، فلا يوجد تاريخ كاف من التعاطي الفلسفي حول اصول الحكم” الديمقراطية” ليتعض منها، ولا يوجد بالقصة كلها فكرة نقدية محلية يستفيد منها على غرار ذكاء ويقظة الفيلسوفة “حنا ارندت ” وهي تعيد تعريف جزء مهم من الارث السياسي الاوروبي فيما يتعلق بمفهوم “الطاغية ” و”كيف يصير الفرد طاغيا ؟
اعود لاقول ان سوريا بالنتيجة ستقف مرة ثانية بعد زمن طويل بوقف ” تذكر”, الصور والمشاهد والعبث بشعب يريد حريته الاصلية، ونسيان “اكليشيهات” الاسد (انشطته اليومية ،الشهرية والسنوية المفبركة) ، تلك المشاهد السريالية التمثيلية لانجازات كان يوزع اثارها التلفزيون السوري فقط خدمة لجهاز ينتعش بكتابات علم “هيبرنايز” حول الدعاية السياسية.
على كل، الشعب بذلك البلد سيكافح من اجل ان يعيش الجيل القادم مغانم الثورة الاصلية لعام 2011، التي كان وقودها “الجسد الثائر ” ، وحول قصة الاجساد ، دعونا نقول ، ان الالاف المختفين والذي قضوا بالسجون، او الذين حملوا السلاح او من تضرروا و صاروا مجانين او الباقين بين الشتات والقتل والابعاد والتهجير القصري، والذين يصرخون بكل زاوية والنعوش…حتى هؤلاء الذين صرخوا بمرقد حافظ الاسد على قبره غضبا وانتقاما ،فعلوه من خلال الجسد، وثورة الجسد التي توليها اعمال انثربولوجية كبرى ( مارسيل موس، لابروتون، ميشيل سير، زيغنوند باومان، افا الوش، …) قيمتها، لان المستقبل يكمن في ما يتخذه الجسد من “وضعيات”؟ وهو بالفعل ما جعل( الاسد ) من شدة صمود تلك الاجساد التي سحق منها ما سحق لم ينفعه زئيره، ففي الاخير “الجسد الثائر” هو الذي انتصر ،هو الذي ربح الميدان مع كل ذلك النزيف… حتى مع فظاعة ” مكبس سجن صيديانا ” الذي يفرز الشحم عن اللحم والدم .
اتمنى ان ينتهي وجع هذا البلد وان يعود السوريون لاعمار وطنهم الجميل، فالثورات احيانا تجمع وتعلم الناس انه لا مكان لك اذا لم يكن غيرك معك من دون حاجة الى اعمال “التحكم”. فلا يوجد في الطبيعة الاصلية بتقدير “جون جاك روسو” ما يجتمع فيه الإنسان والحيوان ، فالحيوان يخضع لبرمجة غريزية، فيما الفرد الإنسان تنبع منه مبادئ اخرى : قيمة الاخر، الذكاء, حماية النوع, التربية ،الرحمة. فلا مجال للتعامل مع البشر خارج رؤية “روسو” المؤسسة بالفعل “لعقد اجتماعي” واعد لن يزول ، فقد اسقطت المفاهيم البالية من القرن الماضي ( رومانيا، جمهورية يوغوسلافيا، جمهورية الاتحاد السوفياتي, الشيلي) وثورات الربيع العربي التي قدر لنا ان نعيش اجواءها ، وان نتابع تساقط الرؤوس تباعا خلالها ( ليبيا، تونس، مصر )، لا يمكن للعالم الا ان يمضي نحو “ديالكتيك هيجل” في فهم عقلانية تتحدد بشرطين: “ماهو موضوعي بالضرورة فهو معقول والعكس بالعكس، فمهما حاولنا لا يمكن ارجاء المتغيرات وتعطيل نظام العالم الخطي (لايبنتز) .
اخيرا لا يفوتني مشاركة القراء هذه العبارة القوية من تحليلات فوكو عن ( ميلاد البيو- بوليتيك ) و مفهوم الدولة المدنية الحديثة حينما يقول : l’etat est un milieu neutre , le mensonge et l’erreur se sont des abus de pouvoir
فالدولة بيئة محايدة، والأكاذيب والخطأ إساءة استخدام للسلطة.
صبري يوسف: كاتب راي و باحث بسلك الدكتوراه بعلم الاجتماع السياسي.