نوستالجيات الحجر بابن جرير
أحمد وردي
الحجر مرآة صقيلة و الحجر محراب و اعتكاف و خلوة و مونولوغ داخلي و حوار مع الذات …فكم كان انغماسنا في محبرة السراب تافها و كم كنا نركظ ركظ الوحوش في البرية و كم هي الحياة قصيرة و نحن ميتون متيمون بأوراق خريفها المتساقطة …كم طوينا من المسافات نحو نقطة الصفر و كم كان العد العكسي من أجل لحظة خالدة هاربة!!
عشنا في ابن جرير و هي متربة صيفا و موحلة شتاء و ظلامها دامس و في دور طينية على ضوء الفانوس و بما يجود به السوق من أسمال و من خضر طازجة …و كنا نلهو و نلعب و لا نعير أفلاطون أدنى اهتمام و لا نعقل الأشياء كأرسطو أو نشك كديكارت و مبلغ همنا أن ننام و نصحو كحي بن يقظان و لا يدخل في حسباننا حساب الأرصدة و لا كل الصور الذهنية الوافدة علينا اليوم من نوافذ الاستيلاب و شقوق الاختراق الثقافي الهجين …
كانت ابن جرير صغيرة و بسيطة و متواضعة و ناسها أطيب خلق الله معدودون على رؤوس الأصابع ….مدرسة سي لحمادي تكفينا جميعا و الكوليج من وصله كمن وطأ أكسفورد أو كامبريدج و من تعدى ” الرابعة ” هاجر هجرة الأدمغة و عاد معلما أو أستاذا أو ذاب في ربوع الاغتراب و عودة حنين موسمية..
لا يتنازع على كراسي السياسة إلا علية القوم و من تسلق مدارج الخطاب أو استورد لينين و ماركس لإقامة ثورة في بلدة مائة عام من العزلة و ابن جرير على امتداد عقود رقدت و لم تحلم و عاشت عيشة ” هاينة ” و كساها زرع وارف و ” خبيزة ” باسقة و أثت فضائها ” بلعمان ” و شبع أهلها بما تيسر عن قناعة و اقتناع أن كسرة خبز و نوم عميق سدرة المنتهى و دفء أسري و تشبيك علائقي حميمي يكفي الواحد منا ليحيا شامخا بعزة الأسلاف لا يلوي على ضفاف بحر الأبيض المتوسط أو ناطحات السحاب و ضباب شكسبير أو أنوار سارتر ….
في ذاك الزمن لم نسمع حسيسا عن طوابير القفف إلا من سؤال عابر سبيل …كان الفقر مستشريا و لكن كانت القناعة و قيم التعفف و كانت أسهم التضامن صاعدة في بورصة البشرية …فالبشر ليس هو البشر فدائما يتطور من جينوم ناذر إلى طينة منقلبة على سلاسل القيم و تعشق القبض على خيط دخان و فقاعات الصابون و يستهويها كل شيء يلمع إلا الذهب …إلا الكرامة!!
و مرت الأيام و زحف الغرب على مظهرنا و زحف الإسمنت و الخرسانة و انصهر هامش الهامش مع هامش ” متحضر ” و غزا النفط الأصفر رأسا قديما و رويدا رويدا تعايشت ألون قزح و كل ألوان الطيف في ” حضارة الكوسموبوليت ” و صارت القرية و بدوها مدينة ذكية تباهي الأمم ..القرية التي لم ترحم عزيز قوم ذل و مات أشرافها و أُبعد أقحاحها و تسيد الغرباء و ابن جرير اليوم أم ثكلى على قارعة الطريق تستقبل ” الغزاة “!!!
في زمن كورونا تناسلت الأسئلة الحارقة لماذا لا نفتح جبهة الماضي في حاضر مترهل و لماذا لا تتم الدعوة إلى تأسيس مركز للثقافة و الهوية من ” العقلاء ” كما نادى بذلك عبد الكريم التابي و لماذا لا نجلس افتراضيا و ما بعد كورونا إلى طاولة العصف الذهني و نختار و تُفرض الإرادة و ندع عنا الاستيهامات و النخاسة و ثقافة القطيع ؟؟ أليست كورونا بالدرس ثم ألا ترون أن ” الكوبوي ” يسرق بنات أفكارنا و نظل ندور في الحلقات المفرغة ؟؟
أخشى أن تنتهي كورونا و لا ينتهي العبث و استشعر خذلانا في قرارة أنفسنا و أحس أن نعرة التبعية لصيقة بعبوديتنا للآخر الذي يبهرنا بسحر ” الصندوق الأسود ” …..مجرد هلوسات و هذيان و هوس الخروج من الحجر كخروج بني آدم من الحمام الشعبي بلا درن!!!!