محمد باهي.. يموت الحالم ولا يموت الحلم في ذكرى رحيل القلم الاتحادي الرصين حرمة محمد باهي
لم يكن محمد باهي مجرد صحافي أو اتحادي عابر في محطات السياسة المغربية، بل كان ذاكرة حية لعصر بأكمله، وشاهدا نبيلا على قضايا وطنية وقومية صنعت وجدانه وبصمته الصحافية. في ذكرى رحيله، لا نرثي رجلا فقط، بل نفتح كتابا من نور، ونعيد الإنصات لصوت من عرف أن الانتماء ليس بطاقة حزبية ولا شعارا عابرا، بل هو التزام تاريخي، ووعي راسخ، ورسالة لا تخون. محمد باهي، الذي كتب بالدمع والفكر، وكان صوته امتدادا لصمت كثيرين ممن غيبتهم الزنازين أو أقصاهم التهميش أو سكتهم الخوف، ظل إلى النهاية وفيا للحبر وللوطن معا.
ولد محمد باهي في زمن تتقاطع فيه الجراحات بالآمال، وكان من أولئك الذين رأوا في الصحافة سلاحا لا يقل مضاء عن البندقية، يكتب دفاعا عن المقهورين، ويؤرخ للمسكوت عنه، ويمنح صوتالمن حرموا من أصواتهم. كان الاتحادي الرصيد، لا لأن الانتماء كان يعصمه من التناقض، بل لأنه جعل من الاتحاد الاشتراكي مدرسة للنضال، ومن جريدة “الاتحاد الاشتراكي” منبرا للضمير الحي، يوم كانت الصحافة معركة، وكانت الكلمة جبهة متقدمة في صراع الكرامة ضد القهر.
محمد باهي، الذي اشتغل محررا ومحللا ومراسلا، لم يكن مجرد ناقل للخبر، بل كان صانعاً للمعنى، يعيد ترتيب الوقائع في ضوء الوجدان الجماعي، ويفضح المسكوت عنه بجرأة المثقف العضوي كما تصوره غرامشي. لم يكتب للتملق أو التلميع، بل ليوقظ الضمير ويوقظ الشك الإيجابي، وهو ما جعل قلمه ذهبياً بحق، لا من حيث الزخرف البلاغي، بل من حيث صدقه، وحِدّته، والتزامه اللامشروط بالحقيقة.
كان محمد باهي فلسطينيا حتى النخاع، دون أن يتنازل لحظة عن مغربيته الأصيلة. رأى في فلسطين اختصارا لمعنى الكرامة العربية المهدورة، وفي نكبتها تعرية للنظام العالمي المنافق. كتب عنها كما لو كان يكتب عن أمه، وكان يرى أن من لا يبكي فلسطين لا قلب له، ومن لا يغضب من أجلها لا مروءة فيه. ومع ذلك، لم يسقط في الخطاب العاطفي الساذج، بل كان تحليله للقضية الفلسطينية نقديا حادا يتعقب الخيانات العربية الرسمية، وينتصر للمقاومة بوصفها خياراً تاريخياً لا مجرد رد فعل ظرفي.
في المغرب، كان شاهدا على تحولات الدولة والحزب والمجتمع. عاش مراحل المد والجزر، وكان قلمه حاضراً في الميادين التي قرر فيها كثيرون الصمت. لم يتورط في تسويق الأوهام، ولم يهادن السلطة حين انقلبت على وعود الانفتاح، كما لم يساير من حولوا المعارضة إلى مراكز نفوذ بلا قضية. ظل مؤمنا باليسار كأفق للتحرر الجماعي، لا كلحظة عابرة في مسار البحث عن المناصب، ولذلك كان كثيرون يرونه مرآة نقية لمرحلة نقية، يرثيها وهو يكتبها، ويكتبها وهو يرفض أن يدفنها.
محمد باهي لم يمت، لأنه كتب كما يجب أن يكتب الأحياء. كتبه وأعمدته ومقالاته لا تزال بيننا، تعيد تشكيل وعينا كلما خاننا البصر في فهم مشهد يزداد التباسا. كان يعرف أن الصحافة ليست مهنة من لا مهنة له، بل هي موقف، وكان يقول: إذا كان لا بد أن نكذب، فليكن ذلك في سبيل فضح الكذب الأكبر، لا في تبريره. لذلك لم يسقط قلمه يوماً في غواية الخط التحريري الموجه، ولا في لغة الخشب، ولا في الاصطفاف المذل، بل ظل ثابتا على المبدأ، يكتب كمن يقاوم، ويقاوم كمن يكتب.
في ذكرى رحيله، لا يكفينا الحزن النبيل، ولا الكلمات المجاملة. محمد باهي يستحق أن نقرأه من جديد، أن نعيد الاعتبار لقيمة الالتزام في الصحافة، ولشرف الكلمة في زمن التفاهة، وأن نحتفي به لا بوصفه “رمزا” من رموز الماضي، بل كمستقبل يجب أن يُستعاد. هو من أولئك الذين لا تغيبهم الممات..
رحم الله محمد باهي، كان ذهبيا لأنه لم يرضَ إلا أن يكون حرا.
